لم تعد الدار البيظه، تلك القرية الوادعة الهادئة، التي
تشرئب فيها الأعناق، عند دخول أي سيارة مجالها الأرضي.. ويمطر الناس بعضهم بعضا،
بأسئلة من قبيل " ذيك الوتتة اللي دخلت لخيام اكبيل أخبارها؟"
اليوم أصبحت سيارات، من كل الأحجام والأنواع، تشق الحي جيئة
وذهابا.. وفي أغلب أوقات اليوم، دون أن تلفت الإنتباه.. فموجة العصرنة بمختلف
تشكيلاتها، غيرت الكثير من ملامح تلك القرية الصغيرة.. الهواتف الذكية وأجهزة
الكمبيوتر والشاشات الصغيرة وغيرها من مظاهر الحياة الجديدة، وجدت طريقها نحو هذه
البلدة، التي ظلت فترة طويلة، بعيدة عن ثمرات التكنولوجيا الحديثة..
معطيات سهلت الحياة، وربطت الناس هنا، بما يجري في العالم،
ومن حولهم، مما أتاح للسكان خاصة الشباب،
الإستفادة من ذلك، في خدمة فعالياتهم الثقافية والرياضية وغيرها..
لكن هذه العناصر الجديدة، وما رافقها من تحول في نمط الحياة،
قضى من حيث لا يحستب كثيرون، على روح القرية.. وأفقدها عناصر هامة من نكهتها الأصيلة..
وجعل الكثيرين من أبنائها، يحنون إلى ماضيها الهادئ والبريئ..
كثيرون - وأنا منهم دون شك – ممن شهدوا البدايات الأولى..
وما تلاها من مراحل وتحولات، يعودون، كلما عادوا إلى هذه البلدة، في سانحة قصيرة، منتزعة
من زمننا الضاغط واللاهث، وهم يبحثون عن تلك الملامح البريئة، التي اختفت أو تكاد،
بفعل عاديات الزمن، وسطوة التكنولوجيا، على إرث عمره، أكثر من ثلاثين سنة!!
ما زالت تلك البداية حية في ذاكرتي، هي والكثير من يوميات
المراحل التي تلتها.. فقد قدر لي أن أكون، ضمن الطلائع الأولى، لمن حلوا، بما
سيكون فيما بعد، قرية الدار البيظة.. عصر يوم خريفي بلا ملامح.. نزلنا وسط الطبيعة
البكر، غير بعيد من "الزيرة" ذائعة الصيت، التي تحمل ذات الإسم،
والمعروفة بموقعها في الذاكرة الشعبية، على خارطة تمتد في اتجاهات مختلفة.. نحو كل
من احسي المحصر وابير التورس والصنكة..
وصلنا المكان على متن سيارات لاندروفر متهالكة، تحمل أجزاء
كبيرة منها، على الأرجح، توقيع المرحوم "بجيورة" .. وعلى دفعات استمرت أياما
- على ما أعتقد - من المنبوع في ربوع الخط الخضلة..
ذاكرة الطفل الصغير الذي كتنه حينها، لا تحتفظ بالكثير من
تفاصيل ذلك اليوم.. مشهد واحد ما زلت أذكره بدقة.. صورة "ولد ام اركيبة"
وهو ينزل من إحدى السيارات، بعد ما أعفاه وضعه الصحي السيئ، من أن يسلك طريق غيره
من المواشي..
أين نزلنا أول ما جئنا الموقع.. ومن كان معي – أو على الأصح
مع من كنت - في تلك الطلائع الأولى؟؟
لم أعد أذكر الكثير من وقائع ذلك اليوم.. أذكر فقط أنه كانت
هناك، حركة كبيرة للناس في الموقع الجديد لإختيار "المنازل" وتدبر الأمر،
بشكل أولي، وإعادة ترتيب ما وصل من أثات على متن السيارات، التي تصل تباعا، تنقل أفواج
سكان القرية الجديدة.. قطع الأعشاب من المناطق الفاصلة بين الخيم الأولى، التي
ضربت لإيواء جموع الواصلين.. البحث عن شجرة تتوسط المخيم الجديد، لتكون مصلى،
تماما كما درج على ذلك الرحل، في تيههم الأبدي، في هذه الصحارى منذ قرون..
لمحات خاطفة ومتفرقة ومشوشة، ما زالت مغروسة في ذاكرتي، رغم
مرور الأيام..
بعد أيام ستكتمل الدفعات الواصلة من الجنوب.. وستتلوها
لاحقا، وعلى فترات، دفعات أخرى وصلت من
الجهات المختلفة خاصة من الشمال.
وشيئا فشيئا، تعود الحياة إلى إيقاعها اليومي، المألوف في
الحي الجديد، خاصة بالنسبة لنا، نحن الصغار، الذين لا تعنينا مشاكل وتحديات التأسيس،
وتوفير الخدمات الأساسية للسكان في الموقع الجديد.. وحدها أفواج الرجال.. وهم في
حركة دائبة، تقريبا طيلة النهار، وجزء من الليل، ذهابا وإيابا، إلى "تنييظة"
بقالفة كبيرة نسبيا من الحمير، المحملة بالقرب، لجلب الماء، لا يمكن أن تمر دون أن
تلفت انتباه حتى غير المكترثين من أمثالنا!!
تلك كانت البداية.. ثم جاءت بالتوازي مع ذلك، محاولات تزويد
القرية الآخذة في التوسع، بمصدر خاص للمياه، فكانت التجارب الأولى، على يد سيدي
محمود، مع الآبار الثلاث التي حفرت تباعا، إلى الشمال من الموقع الذي سيشهد بعد
ذلك بأشهر، حفر أول بئر إسمنتية في القرية.
ما زالت أذكر من يوميات تلك المرحلة، صورة
"اسرين" يتجاذب أطراف الحديث مع كبار أعيان البلدة، حول تفاصيل سير
عملية الحفر، تحت شجرة قريبة.. وغير بعيد منه، ينهمك معاونه الأبرز "سك"
في العمل.. مترنما بأهازيج من ذكريات طفولته البعيدة، في قرية "انبكم" سيئة
الذكر، قرب لكوارب..
وهكذا أخيرا نجحت الدار البيظة، في تحقيق أول مظاهر الإستقلال،
بئر تروي عطشها.. وتنهي اعتمادها على تنييظة وغيرها من الآبار القريبة.
كان ذلك التحدي الأبرز، لوضع لبنات البداية، وحمل لواء
تحقيقه، جيل الآباء المؤسسين، الذين تظل ذكرى كل واحد من أفراده، ترفرف فوق رؤوسنا
جميعا، وفي كل حين، لندعو لمن انتقل منهم إلى الدار الآخرة، بالرحمة والغفران،
ولمن ما زالوا بحمد الله بيننا، بطول العمر والعافية..
وخلال السنوات اللاحقة، دخلت القرية في واحدة من أكثر
مراحلها ازدهارا.. توسعت وامتدت نحو الجهات المختلفة المحيطة بالبئر، وشهدت حركة
تقري نسبية.. لكنها كانت هشة حيث لم تستطع الصمود في وجه أول امتحان.. أطلت تحديات
من قبيل، حدة العزلة وسطوة الجفاف والتصحر، الذي حول المكان، الذي كان يوما قطعة
خضراء مورقة، إلى جزيرة رمال، لا يصلها أي قادم إلا بشق الأنفس.
ضاقت الأرض على السكان، بما رحبت بفعل صعوبة وسائل
العيش.. وبدأت جموع المتسللين من القرية
تتزايد، حتى عاد الموقع، لما كما عليه أول مرة.. خلاء لا ساكن بها.. كان ذلك ما
حملته السنوات العجاف مع مطلع التسعينات.. لم يبق من مرحلة الإزدهار الإولى اليوم،
سوى ذكريات جميلة، يستعديها الناس بكل حنين ... وكذا شواهد قليلة عبرت تلك السنوات،
لتستقر في الحاضر إلى جنبنا، منها أطلال المدرسة، وموقع استاد مالك ( بالنسبة
لمراهقي وشباب المرحلة) وأشجار متفرقة هنا وهناك، يعرف من خلالها، من عاش تلك الأيام،
مواقع أهم منازل القرية...
غير بعيد من هذه المعالم المتناثرة، والسائرة نحو الإختفاء
بكل أسف.. نبتت مرة أخرى الدار البيظة الجديدة منذ أواسط التسعينات، وهي في تمدد
واتساع لافت، على شكل شريط طويل، يحاذي الطريق الواصلة بين تكند والمذرذرة.
لم ترد القرية الجديدة، التوجه شمالا، ربما احتراما لذكرى
سابقتها، وحرصا منها على ان تصون ماتبقى منها، ومعه الكثير من المحطات البارزة في
حياة من عاشوا هناك، وأسماء بارزة عاشت في هذا المكان، ورحلت منه إلى الدار الآخرة..
تاركة ذكرا طيبا، ما زالت الآجيال، تتناقله تراثا، عليه تبني منظومة قيم الحاضر..
أعود في كل مرة، إلى تلك الربوع.. وأجدني دائما، مشدودا إلى
تلك الأطلال أتملاها.. أطيل النظر فيها، وأتذكر عالما كاملا جميلا، عرفته هنا حيا،
ينبض بالحركة.. ابتلعته السنون والنسيان.. وأضحى مجرد ذكريات..
أصيخ بسمعي، فأكاد أسمع صدى الأذان، يتردد في المكان، بتلك
الأصوات الخاشعة المخبتة في عتمة الليل، وفي غبش الفجر.. أصوات الأطفال، يتنافسون
تحت رهبة معلميهم، في رفع أصواتهم، بسور متفرقة من الذكر الحكيم.. أكاد أتبين صوتي
قادما من بعيد، عابرا تلك السنين وأنا أقرأ لوحي.. هناك من الناحية الغربية القصوى،
في منزل معلم الأجيال، المرحوم الداه الداه جزاه الله عنا خيرا، على ما تحمل منا
من أذى وإزعاج، وعلى ما أسداه لنا، من تعليم وتوجيه..
أكاد أرى قامات أعرف أصحابها جيدا، يحثون الخطى نحو المسجد..
وبعضهم يتبعه تلاميذه يحفظون "سوراتهم".. أسمع أصوات نسوة، وهن يتبادلن
الأحاديث، بعد أن غادرن هذا المنزل، إثر عيادة مريض، أو زيارة قادم... وفي منزل آخر
أسمع رجلا "يزرك" بعض الأطفال.. يشحذ ذكاءهم وفهمهم، طالبا منهم، إعراب
بعض أبيات معلقة عنترة بن شداد.. وبين الخيام و"لمبارات" القليلة
المتناثرة هنا وهناك، أطفال يلعبون "غميظ".. وآخرون أكبر سنا، انتهزوا
فرصة القمر، فراحو يلعبون "انقاش" أو "تود ام اركب".. وحده
سليمان راعي الغنم، يزعجه القمر لأنه يؤخر نوم الأطفال، ويحثهم على اللعب
والاجتماع، فينتهزون فرصة مروره بين مهمات " التحلاب" التي يطوف بها،
على أغلب المنازل.. ليشكلوا له ما يشبه التظاهرة الإحتجاجية، لا لسبب معروف، سوى
شيطنة الأطفال.. فيندفع شاهرا عصاه، مهددا ومتوعدا، لينتقمن منهم.. ويهربون أمامه فيتبعهم..
ويختفي سائرا إلى الجهة الجنوبية الشرقية، ناحية " أهل جيجاه"، ويبقى
صوته يتردد في المكان..
وبعد اختفائه، يعودون أدراجهم، وهم يتضاحكون، وكأنهم حققوا
انجازا كبيرا، يستحق أن يبلغ تفاصيله الشاهد الغائب..
.. ساعة الضحى، وكأني أرى رأي العين، امبارك ولد مالك، يجمع
القرب و"شامبرييرات" للذهاب بها
إلى البئر.. على صهوة حماره، ويتوقف أمام كل منزل، منتهزا فرصة وجوده، لتجاذب أطراف
حديث، لا يخلو من عفوية وبراءة.. وكذلك تصفية حسابات صغيرة، مع هذا الطفل أوذاك!
هناك إلى البئر، سبقه المرحوم مالك، يعد العدة، ليوم عمل
جديد.. ثم ما يلبث المشهد أن يكتمل.. يرتفع صوت البكرة أو " التينّة" شاكية
من ضغط الرشا، الممتد نحو قعر البئر، حيث امتلأ الدلو لتوه من الماء، وهناك في
الطرف الآخر، حماران يتقدمان بصعوبة، نحو "راس المرجع"
يستحثهما " أنيوال" ما زال في بداية طريقه.. في
ثقافة "الأبيار" السائرة اليوم نحو الإنقراض!!
ثم يكثر الوراد.. هذا جاء من اخناثة قاصدا لكراع الاحمر،
يريد فقط أن يسقي هذه الشياه قبل أن يواصل طريقه.. يستغل الفرصة ف"يتعاطي الأخبار"
مع مالك أو أحد الرجال الكبار الموجودين هناك، عن المراعي والحيات في المنطقة التي
أتى منها.. ثم ينطلق بعد أن ملأ قربته الصغيرة.
وهذا " ديار" غادر أهله منذ يومين، يتقصى أخبار
ناقة غادرت تنبصكيت، وبلغه حديث عن احتمال وحودها غرب المذرذرة.. وراد آخرون جاءوا
من الحيات، التي تنتجع منذ سنوات في المناطق القريبة من الدار البيظة وتنييظه
واكيكة..
.. بعد جولات امتياح متتالية.. تكون الدفعات الأولى من
"شامبرييرات"، قد أخذت طريقها إلى "لفريق".. وفي العودة، يحمل
المساعد المزيد من الشامبييرات الفارغة، ومعها تأتي دفعة من الفضوليين، من الأطفال
الذين كان المرحوم مالك يسميهم " أولاد يمة صبي لي.." يستحثهم امبارك
على مرافقته، في رحلة العودة، ثم عندما تصدر الدفعة الجديدة نحو لفريق، يكونون في
رفقتها.. مشهد ممتع، لم يكن يحظى به، سوى من كان على صلة جيدة بامبارك.. يتكرر
كثيرا في تلك الأيام البعيدة.. حرمت منه دون شك، الأجيال الحاضرة، وربما للأبد.
بالعودة إلى "لفريق" تتراءى من المرتفع الشرقي، رؤوس
صغيرة.. تتحرك في بطء، ثم يكتمل المشهد
بقافلة حمير، محملة بأعدال و"اصرر" متفرقة.. إنها رحلة "الطحين"
عائدة إلى قواعدها سالمة، بعد رحلة ناجحة إلى الدشرة.. مهمة كان لها فرسانها
المجلين بيننا وقتها..
ولم تكن تلك المهام القصيرة والمحفوفة بالمخاطر، تمر دون
الكثير من المواقف غير الودية واللحظات الصعبة، لعل أخطرها المرور قرب المقابر
المتناثرة في الطريق، والتوجس - خاصة في الليل - من مقابلة بعض السكان "غير
المرئيين" للمنطقة ك"مولاة اللمبة" المشهورة، والتي كنا نقطع
المسافة بين الدشرة و"لفريق"، وشبحها يطاردنا.. وكنا نتوقع أن تقف
أمامنا في أي لحظة.. وكل من عاشوا تلك الفترة، ممن هم دون العشرين وقتها، يعرفون
جانبا من ذلك الواقع المر والطريف.
ساعة العصر.. من
الطرف الآخر للحي، يتناهى إلى السمع.. هرج ومرج، تتبعه ضربات بايقاع متتالي
موقع.. إنها الكرة تتقاذفها طلائع اللاعبين في طريقهم إلى ستاد مالك الشهير.. هو
إعلان بحلول وقت المباريات، التي كنا نقضي فيها أوقاتا طويلة، ونفضلها بالتأكيد
على غيرها.. لذلك نبقى متحفزين، خوفا أن يفاجئنا زوار المساء من معلمي "الألواح"،
الذين كثيرا ما نظموا لنا مواسم حصاد، يقتادونا فيها منكسرين إلى بيت الطاعة.. فنعود
صاغرين إلى ترتيل القرآن مع ساعة الغروب، بدل مداعبة المدورة الملساء، كما يسميها
المعلقون الرياضيون!!
مع أول خيوط الظلام، تلوح أضواء في الأفق المعتم، ترتفع فجأة،
وتقترب، أو هكذا يخيل إلينا، ثم تتراجع وتخفت، قبل أن تعاود الظهور مرة أخرى.. يحدث
ذلك كثيرا، فالسيارات القادمة من لكوارب ونواكشوط، وكذا تلك العابرة للمنطقة في
مهمات أخرى، كلها لاتمر دون أن تلفت الإنتباه، بسبب أضوائها وأزيزها الذي يشق
الصمت المطبق على المكان، أغلب الوقت خاصة في الليل.
تقترب الأضواء.. ثم بعد هنيهة، تعلو وتنعطف شمالا ثم
يمينا.. يصبح الصوت مسموعا، إنها على الأرجح، إحدى سيارات النقل القادمة من نواكشوط،
انعطفت عن الطريق المارة جنوبا، تحمل بالتأكيد، راكبا أو اثنين من أبناء القرية..
يملأ صوتها وضوؤها المكان، ثم تدلف من الجنوب.. تشق الخيام
متجهة نحو الشمال، تصل مستوى المسجد، ثم تنعطف شرقا قليلا... في هذه اللحظات، تكون
طلائع الفضوليين من الأطفال، قد بدأت تتجه ناحيتها، مستخدمة قرون الإستشعار،
لتخمين خط سيرها المحتمل.. يجبر السائق الذي يعرف المنطقة شبرا شبرا، على خفض
سرعته، بسبب مروره بين المساكن.. ينجح أكثرالاطفال جرأة، في التعلق بهيكل السيارة..
ولكنهم يبقون في حالة تأهب، وعليهم الاستعداد عند أبسط توقف، للإبتعاد بسرعة قبل أن
ينزل "ابرانتي"..
تنعطف السيارة قليلا، متجنبة زريبة صغيرة، تبرك داخلها شياه،
أزعجهن الضوء وصوت المحرك، فأخذن يتصايحن.. تتوقف.. وبرشاقة وسرعة ينزل
"ابرانتي" ، ثم يصعد فوق هيكل السيارة، ويتناول حقيبة ملابس متوسطة
الحجم، ثم يُنزل أغراضا متفرقة.. في هذه اللحظات يكون أحد الركاب، قد نزل من مقدمة
السيارة، وعينه مثبتة على ما يفعله ابرانتي..
يتحلق الأطفال.. ويتقدم بعضهم للمساعدة في ايصال الأغراض إلى
المنزل القريب.. فيما آخرون يتحينون لحظة انطلاق السيارة مجددا، لتجريب فرصة
" تلنكية" أخرى.. أما الأكثر كسلا والأضعف حيلة، فأمامهم الآن فرصة
ذهبية، للحصول على قطعة خبز، كانت طرية، لكن ملامحها تغيرت كثيرا، بفعل بقائها
طيلة مدة الرحلة، داخل كيس بلاستيكي، محكم الإغلاق،
وبامكانهم الحصول
على أشياء خرى أكثر أهمية، إذا كانوا من دائرة الأقارب المباشرين للوافد الجديد،
أو أكثر صبرا، واستعدادا للمساعدة في ترتيب ما يتطلبه اعداد الزريك والشاي
للقادم.. وإيصال الخبز والنعناع للجيران..
لقد كانت السيارات في تلك الأيام البعيدة، زائرا نادرا.. لا
يأتي إلا لماما، وتحت جنح الظلام في الأغلب.. ومع ذلك كنا نحرص على أن نستقبل هذا
الزائر، بكل ما نملك، مهما تإأخر مجيئه.. ونشكل له بعثة شرف ومرافقة حقيقية، تسايره
في كل محطاته.. يتشبث بعض أفرادها بما تيسر من هيكل السيارة.. أما الأقل حيلة
وشجاعة، والأضعف بنية – وكنتم في الأغلب أحدهم - فيعولون فقط على أرجلهم، لملاحقة
هذا الضيف العزيز، أينما حل، ما وسعهم ذلك!
في "المناسبات الإجتماعية" كنا نعيش لحظات لاتنسى..
فإلى جانب الفرحة التي تعم الحي الصغير والمتكاتف.. كنا نحظى ب"نمط غذائي"
آت من عالم الخيال، بالنسبة لنا.. أطباق من بنافة، بحر لجي من المرق، تسبح وسطه، قطع
بطاطس صفراء ساخنة.. مع قطع و"اعظام" من اللحم، وكميات من التمر
والزبدة.. وكذا أطباق من الأرز، المختلف سحنة وإعدادا، عما كان موجودا على موائدنا
اليومية.. من منا يحلم بأفضل من ذلك!!
وقد يبتسم لنا الحظ جيدا.. فنجد من يمنحنا مكانا، ولو طرفيا،
في خيام المدعوين الكبار، القادمين خاصة من "كبلة لبحر" ومن نوكشوط
وغيره من المدن الكبرى.. والغارفين بكل جوارجهم في حلقات لعب الورق، تهدهدهم الأنغام
العذبة، لشريط ينبعث صداه من ركن المكان، يحمل توقيع ثنائي الثمانينات اللامع سدوم
وديمي..
ويعرض بعضنا ما يملك من خدمات، في سبيل ذلك، ولو على حساب
باقي الرفقة.. فيتبرع باعداد الشاي أو مناولة المغاسل والأطباق، مقابل أن يتمتع
بالجلوس في دائرة الكبار، والأكل من طعامهم الخاص.. وربما حصل، بعد ساعات من
الخدمة الشاقة، على علبة أوراق مستمعلة، يتباهى بها اياما طويلة، أمام رفاقه، ممن
لم يتح لهم الوصول إلى ذلك المقام!!
اما الأعياد، فكان أجمل ما فيها، بالنسبة لنا في ذلك الحين،
إلى جانب الملابس الجديدة، هو التوقف عن الذهاب إلى اللوح أيام "خرود"..
وهي فرصة تتيح لنا، صرف مزيد من الوقت، وبكل حرية تقريبا في الألعاب المتاحة، وحضور
حفلات الطبل التقليدية و" أنيكور" التي تقام أيام العيد الثلاثة.. على أطراف
الحي، ولتلك الحفلات فرسانها، الذين كانوا يحيون كذلك بالمناسبة، سهرات مديح، تحظي
باهتمام كبير، من قبل عدة فئات من مجتمعنا الصغير، وربما شهدت هذه المناسبات،
زيارة أحد المداحين المعروفين من باجليلاي مثلا أو المحرد، وحينها ينتشر خبر وصوله
سريعا، فيتهيأ الناس للاستفادة من فرصة مروره، إلى أبعد حد.. والإستمتاع بأدائه
الخاص..
كانت هناك مناسبات أخرى، لا تقل أهمية.. هي زيارة الحاكم، أوغيره
من المسؤولين في الدولة.. وكانت تشهد ترتيبات خاصة.. لكنها بسبب قرب المذرذرة، فهي
نادرة ولا تأخذ وقتا طويلا، وبالتالي نحرم فرصة الإستمتاع بها، وربما تذوق الفائض
عن الحاجة، مما يعد للوفد من طعام نادر في حياتنا اليومية، ورؤية عناصر الدرك
والحرس في ملابسهم المهيبة.. والأهم هو القرب من تلك الكائنات العجيبة.. التي تسمى
المسؤولين ببشراتهم المختلفة عن بشراتنا التي يلفحها إريفي كل يوم.
من اللحظات التي لاتنسى يوم مجيئ " دكة الحماية "..
وكنت يومها، ترى حركة دائبة بين المنازل.. النسوة منهمكات في الإستعداد للمناسبة..
وحول "امبار ابيمي" تنشط المسؤولات في إعداد واجب الضيافة، بأقصى ما
يليق، وأعين الرجال عليهن، لنجدتهن عند الضرورة، لتوفير ما قد يحتجنه.
في مختلف المنازل، الأمهات يضعن اللمسات الأخيرة، لتحضير
الأطفال وأنفسهن.. حمام بارد، يتبعه ارتداء ملابس جديدة أو نظيفة على الأقل..
ثم تنطلق النسوة فرادى وجماعات نحو عين المكان.. تكون فرقة
" ابيمي " قد وصلت على متن سيارة خاصة، وشرعت في عملها، وسط صراخ وبكاء
لاينقطع، فالأطفال في حال هستيرية، جراء الأمصال والحقن التي تعطى لهم بالمنسبة..
وتتواصل العملية عدة ساعات، في هذه الأجواء.. احدى المسؤولات تزن هذا الطفل.. وأخرى
تقدم نصائح لأم ذاك، بشأن تغذيته، ثم توزع في النهاية، المكملات الغذائية من ألبان
وزيوت، ومركزات وفيتامينات..
ربما كانت هذه هي الأهم، عند أغلب الناس وقتها.. فلم يكن
كثير من الأمهات جينها، بدافع حسن النية طبعا، يولين اهتماما كبيرا للتثقيف الصحي.
ثم يأتي وقت الضيافة، فلا يبقى هناك مع المسؤولات، سوى المساعدات
المحليات، اللواتي تلقين تكوينا أوليا في مجال العلاجات والإسعافات الأولية،جعلتهن
وحدهن من يستطعن، ومن يحق لهن مجالسة "البرانيات"!!
أما نحن.. فمنذ الصباح، ونحن نتحلق في الموقع.. نحوم هنا
وهناك.. نساعد هذه المرأة في حمل صغيرها، نناول بعض متطلبات الضيافة، نوصل هذه الأغراض
إلى ذلك البيت، ثم نعود سريعا.. نحضر أواني لائقة، أمرت إحدى النسوة بجلبها، من
منزل في أقصى الحي.. نحن اليوم رهن الإشارة – على غير عادة كثيرين منا - ونقوم
بهمام متعددة، وباستعداد لافت دون شك..
فقط ما يعكر حريتنا، هو سائق السيارة التي جلبت البعثة، فهو
لنا بالمرصاد بالنهر، كل ما ارتفعت جلبتنا، أو اقتربنا من السيارة، نتحسس بكل استمتاع،
قطرات البنزين ذات الرائحة النفاثة، وهي تنزل على التراب، مشكلة بقعا سوداء دسمة..
وهي فرصة لا تتكرر كل يوم!!
ولم تكن كل أيامنا لعبا ولالهوا على الإطلاق، فمع التقدم
النسبي في السن، تصبح هناك مهام صغيرة، تنتظر البعض، كجلب الحطب من الأقاصي
البعيدة، خاصة من محيط " لوتيته الخاسرة" ذائعة الصيت.. والتكفل بمهام
إيصال قريبة إلى إحدى القرى البعيدة، على ظهر حمار.. أو جلب أغراض لهذه الأسرة أو
تلك، من مكان بعيد بذات الطريقة.. أو تولى مأمورية البحث عن ضالة، لم تعد كالعادة
إلى مناخها الطبيعي، وهي مأموريات كانت، تتطلب إضافة إلى تحمل العطش والجوع، معرفة
شبه دقيقة، لخارطة الحسيان والقرى المحيطة، وكذا حيازة بعض المعارف العامة،
المرتبطة بالنار والألوان، والفئات العمرية للمواشي، وهي أمور ليست بسيطة، فالنار تبدأ
مثلا من " لحبارة " وتمر الى "كراع لمغس" والشواهد وتنتهي مثلا ب"الدال" باقسامه
المختلفة،
أما الألوان فهي خارج دائرة المألوف اليوم، عند الأجيال
الحاضرة، ك"الشخام" و"الاحوى" والزراك" أو "
الشكار" مثلا، أما السن والنوعية فهي كذلك تختلف حسب نوع الدابة، من قبيل "
توس" أو "اويال" او "تغيارات" أوغيرها.. تنضاف إليها
وضعيات أخرى ترتبط بحالة الضالة هل هي شائلة أم ماخظ... الى آخره.
وكانت بعض الرؤوس الصغيرة، تستوعب كل هذه الثقافة، بشكل
لافت، وتدخل بذلك سريعا في دائرة الرجال، الذين يعول عليهم في مثل هذه المهمات
الصعبة..
وليس هناك أجل محدد لمهمات البحث عن الضوال.. فقد يستغرق
الأمر يوما أوبعض يوم، وقد يتطلب أكثر.. لكن تعبها وارهاقها، كان يختفي بنجاحها،
وعودة صاحب المهمة، ليتباهى أمامنا بما شاهد، وبصحبته للكبار ولقائه ( حقا او كذبا
) لأسماء بارزة في عالم الحياة البدوية، وبمالقيه من عناية، عند تلك الخيمة التي
بات عندها، في طريقه إلى البئر الفلانية.. وكان يصبح في أعيننا بطلا، لبعض الوقت،
نغمطه على انجازه، ونتمنى في أعماقنا، أن تتاح لنا فرصة، لنحذو حذوه، أو على الأصح،
أن نجد الشجاعة، لفعل ذلك..
كانت هنالك أيضا، صولات وجولات الطبيعة.. فاتساع مجال
التصحر، وضعف الغطاء النباتي أو انعدامه على الأصح، وزحف الكثبان من كل الإتجاهات،
خاصة من الشرق والشمال، جعل البلدة في حصار حقيقي، وأي رياح كانت تحمل معها كميات
كبيرة من الأتربة، تذروها في الأفق، فيتراجع مجال الرؤية.. وتلف المكان سحابة بنية
حزينة.. ويحدث أن نعيش أياما بلياليها، تحت رحمة "السافي"
و"الجريحة" أو "اريفي" حسب الفصول.
أما الأمطار، فكانت تعني إعلان حالة طوارئ حقيقية، خاصة إذا
سبقتها، غيوم قهوية اللون، تكسو الأفق، "تتثعبن" وسطها بروق متنوعة
الأشكال والأحجام.. ومن تلك الحقبة، حفظ الكثيرون من أبناء جيلي، عن ظهر قلب،
قاموسا واسعا، من الإستغاثات والمأثورات والأدعية، كان الناس يهرعون إلى ترديدها،
علها تخفف من وطأة ذلك الزائر، المرغوب والمرهوب في ذات الوقت.
ومن الإستنتاجات الميتولوجية الطريفة، التي انغرست في
مخيلاتنا الساذجة، من تلك الفترة، أنه كلما كانت أهوال الرياح والأمطار أقوى، وصراعهما
فوق رؤوسنا المستسلمة أشد.. فذلك يعني بكل بساطة، أنه كانت هناك محاولة لمنعها من
النزول، بقدرات خارقة يمتلكها البعض من أصحاب السر!!.. وكأن هناك، رادا لأمر
الله.. أي سذاجة وأي سطحية؟!
وكان من النادر بالفعل، أن تمر الأمطار، دون أن تصحبها، أو
تسبقها عواصف رملية عاتية، تقتلع أو تهدد بإقتلاع المساكن الهشة، وتعبث بما فيها
من أثاث وأغراض.. ومع ذلك ما إن تنتهي حتى تدب الحياة، ويتنفس الناس الصعداء، كأنهم
ولدوا من جديد، ويبدؤون في تبادل التهنئة بنزول المطر، ومروره بسلام..
وبعيدا عن أجواء
الطبيعة، يحدث أن نستضيف فرقا رياضية، قادمة من المذرذرة، وكنا على الأغلب، لانحقق
أمامها، نتائج كبيرة، نظرا لأننا ندخل المنافسة بنفسية سيئة، بسبب تعالي أغلب
عناصر هذه الفرق، واستحضارهم لقاموس من السخرية المرة والفارغة.. عادة ما يكون أثيرا
لدى سكان المدن، في مواجهة سكان القرى والأرياف..
ورغم ذلك، فقد استطاع شباب الدار البيظه، عام تسعين "انتزاع"
كأس عمدة المذرذرة – وكلمة انتزاع هي الكلمة المناسبة فعلا لما وقع – فقد كانت الظروف
صعبة، والإمكانات جد متواضعة.. ولم يكن هناك تفهم، ولا فهم لحقيقة الرهان، من قبل
أغلب الكبار.. بل كان هناك على الأغلب، تسفيه لهذا المسعى، وتقليل من أهميته!!
ذكريات وتفاصيل صغيرة.. من مراحل مختلفة، من عمر
الدارالبيظه.. زمن جميل مضى ولن يعود.. حقيقة من الصعب علي، وعلى غيري ممن عرفوا
تلك المرحلة، أن يسلموا بها بسهولة..
وحده الأستاذ سيدي المختار ولد ابياه حفظه الله، نجح في أن
يبقى على رابط رائع بذلك الماضي، عن طريق فرشاته، التي لا شك أنها تحن لاستعادة
شحنات، من أيام السنغال الزاهرة.. ورسوماته المعبرة، ونشراته المصورة، التي سجلت
تفاصيل ويوميات جيل كامل، من تلك المرحلة.. تناقلها الناس بحبور وسرور في ذلك
الوقت..
وها هو يعيد الكرة في معرض أقامه في نواكشوط، وليس في الدار
البيظه، واختار له أن يتجاوز منذ البداية، الإطار المحلي..ما يحمل في حد ذاته، تمردا
لا شعوريا على الحاضر، وهروبا من حصاره، وحرصا من الماضي على التعبير عن نفسه.. شاء
من شاء وكره من كره..
إنه التعبير الأوضح عن الحنين لذلك الماضي.. لروح الدار
البيظة الأبدية.. التي تسري في الأجيال، هربا من أن تبقى محاصرة هناك، في تلك الجغرافيا
الصماء الجامدة!!
amazing dar elbeidha
ردحذف