عدد متابعي الموقع الآن

الثلاثاء، 19 أبريل 2016

الذائقة الشعرية لدى العلامة أحمد سالم بن باكا من خلال كتابه "تاريخ إمارة اترارزة"

جمع وتحرير الدكتور أحمد سالم ولد اباه 


يلاحظ القارئ لكتاب تاريخ إمارة اترارزة للمرحوم "باكا" [1]أنه قد زاوج معجمةً أو راوح مهملةً في اختياراته الشعرية بين الفصيح والشعبي، تقوده في ذلك الموضوعية والدقة في التحري، كما يستضيء بذائقة شعرية غاية في الطبع، وبلسان زانته علوم الآلة من نحو وبيان وصانته عن الخطإ والخطل، وبعقل منته في الحذق والتثقيف، محصن بالمنطق  والحصافة، مما مكنه في الانتقاء من المعارف والمحفوظات الموسوعية الشعرية فدل ذلك على علو كعبه في نقد الشعر وتذوقه، واستغلاله لخدمة التأريخ لحوادث الزمان ، ولا يخفى أن إملاءات باكا الشعرية كانت من الذاكرة، إذ هي ثقافة حاضرة لديه من التراث الشفاهي الذي يجعل من الرجل في منطقته وبين قومه "راجل اجماعة" ويخول للفتى التصدر في المجالس حتى يطلق عليه "فتى" أو "ول ازوايا" ولهذا فقد كان لا يفوت فرصة لاقتناص شوارد اللغة والفقه والتاريخ والأنساب والقيم من خلال مقطوعات شعرية طريفة وغير متداولة فيما نشر من التراث الموريتاني .



ففي شأن "طبل المحصر" وهو وسيلة إعلامهم واتصالهم إذ ذاك قسم ضربه ثلاثة أقسام :
1-   نقر الطبل بشكل سريع متتابع للحرب ويسمى " أراتيم لفزوع"
2-   نقر الطبل ثلاثا للرحيل وتسمى هذه العملية " خبطات ارحيل "
3-   نقر الطبل ليهتدي التائه في الصحراء ويسمى " الهَدْيَ "
وللتدليل على هذه المصطلحات يستطرد باكا أبيات الشاعر "يكو بن محمذن بن أحمد ميلود بن شدار بن أجفغ الأمين الفاضلي التي منها :
ضربوا الطبل للرحيل ثلاثا                       واستمروا يقوضون الأثاثا
ثم شدوا رحالهم فوق بزل                        من بنات الجديل لسن غراثا
قدموا الخيل واقتفتها المطايا                      صوب تنواكديل تعدوا حثاثا
وإذا ضل بعضهم كان ضرب الطْـــــــــــــــــــــــــــــــــبل منهم مواترا ثلاثا
وللتعريف بلدة "تنواكديل" الواقعة قرب "إديني" يستطرد بيتين لابن الطلبه اليعقوبي يذكر فيهما "تنواكديل" ومجاورها من الأماكن وخاصة "تمرذل" التي تقع شرقها يقول :
هاج المنازل من نعاق عقنقل          تنواكديل عقام شوق مخبل
فالريع ذي العرصات فالقاع الذي     دون الأجارع من أميل "تمرذل"
وتقع تمرذل المذكورة غرب "تيجك" المذكورة في الأبيات الآتية :
جزى الله خيرا عند "تيجك" خيرما       يجازى به أهل الندى والمكارم
أنخنا بهم بعد الكلال مطينا      وجفن زمان الجهد ليس بنائم
فبتنا بإكرام ونكرم ضيفنا      وقد يكرم الأضياف ضيف الأكارم
ويبدو أن أكثر دواعي الاستطراد الشعري الممتع خلال كتاب إمارة اترارزه هو التعريف بالأماكن والمواضع وتعريبها، يقول باكا في التعريف ب"تنياشل" وهي ذات الحي كما عربها عبد الله بن الشين الإدكوجي نسبا البوحسني وطنا يقول :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة        وللنفس حول المأمنين ثلوج
وهل لي ب"ذات الحي"عيش ألذه     منازلنا قدما وحيث نروج
ومن ذلك تحديد موقع "تلماس" فقد استطرد فيه نصين لمتنبي موريتانيا كما يطلق عليه وهو محمد ولد هدار يقول :
حد أسدب من كطع أكواد      ساحل لمبيديع من واد
محمد الحداد إلى عاد        كايس تيلماس، وُ تنكاس
إكد إروح البل أولاد        اللب فتنويش ألاَ ناس
ايظح "تافيريت" وكاد        إكيل لعاد ال حاس
"تيلماس" ابمركوبُ كونْ    لما كاع احرك ماه اباس
امكيلُ بعد اله مضمون     وامنين إكيلها لاباس
ذ الواعد فافْريك الا هون  عن فم الحاس "تلماس"
وإن كان لنا من ملاحظة فإنها ملاحظة فنية عابرة، حيث إن كاف الطلعة الآنفة الذكر "مُسَتَتْ" أي أن أشطاره ستة والمتداول أن يكون رباعيا، لكن امْحمد حجة في هذا المجال ولذلك فهو تقليد أدبي راسخ مروي من ثقة عن عملاق من عمالقة الأدب الحساني.
ومن نصوص مْحمد ولد هدار التي ذكر فيها تيلماس وما جاورها :
كط اخترت من اجمال اجمل       واردفت أمنادم متعدل
واتملصت من اَهل فالتل           وارفدت البرد مع الأشماس
تميت انسير مستكبل         يغير ال كايس ينكاس
والطرب ال يكلع حكت    لخلاك أوادع ماه اباس
زاد انت يليلت نبكت       لكباش وُليلت تيلماس
وللشعر النادر غير المتداول نكهة خاصة حيث يجد المتلقي فيه ما يسميه النقاد "لذة الوجدان" وفي كتاب باكا من ذلك الشيء الكثير، استمع إلى قول محمدُ ولد حنبل الحسني في مدح الأمير سيدي بن محمد الحبيب :
زارتك إذ زار الجفون كراها    من بعد ما مل المطي سراها
في جوز مجهول تلفع ليلة       طمس النجوم عجاجها ودجاها
باتت تجوب وما السرى من دأبها    تيها تضل عن الفلا قطاها
حتى ألمت والنجوم غوارب   بصوارم نكث النعاس قواها
متوسدين يُدَيَ عيس رزح     طوت الفلا بذميلها وقواها
غاصت بهم في هول كل متيهة    موزونة وهدانها ورباها
لم يونسوا إلا السراب نهارها      وبليلها إلا نئيم صداها
عجبا لمسراها وكان يعوقها      عن جاراتها القريبات وناها
وإذا تعالج نوءة ناءت بها        علجانة من عالج أخراها
نفسي الفداء لرشفة جادت بها     من بعد بخل من سلاف ظماها
ولنظرة نظرت إلي كما خلى      بين الخمائل ظبية بطلاها
ولزورة نعشت حشاشة مهجتي     من بعد ما حطم الغرام حشاها
ولفرحة أهدت لنا بقدومها       بعد الصدود وبعد طول نواها
فَرَحَ البلاد إلى الأمير وقد جلا  أعناق صبح  قدومه ظلماها
فتباشرت أقطارها وتشامخت    أعلامها وتأطرت بحلاها
وهمت غيوث الأمن فيها هُمعا    حتى استقامت سمها أفعاها
وبدت سيوف الأمن فيها لسعا     حتى رعت بين الأسود ظباها
ملك تدين له الملوك مطيعة    وبعز خدمته تحوط حماها
سارت به همم عزيز نيلها    فبنان نعش دونها وسهاها
حتى اقترى إثر الغيوث بتيرس    يرعى مرامي رُبدها ومهاها
تغدو ظعائنه لكل خميلة         وتروح رغما من أنوف عداها
ترنو بأعينها إلى أشباهها   من كل مغزلة تعود رشاها
ورصيص بيض مودع بدمائها         وأنيق أزهار يفوح شذاها
وتبيت نافشة هناك جياده         خضر الجحافل من غمير خلاها
وتهيم مهملة مخائض سرحه    تقرو مواقع قطره وحياها
وتظل ترعاها عيون مهابة     شم الشواهق حصنت أرواها
وأتته وافدة تخاف وترتجي    غلب الجبابر من حصون قراها
فتلطفوا وتعلقوا وتعلقوا       بحباله وتمسكوا بعراها
ألفى الزوايا كا لهشيم رمت به    بين القفار دبورها وصباها
فثنى عليها عاطفات حنانه     وأقاع يرأب جاهد مثئاها
حتى إذا ملك العلى بزمامها    وحوى المفاخر رافعا للواها
صرف العزيمة راجعا لبلاده   من بعد ما حنت وطال بكاها
يهدي الظعائن كالنخيل بواسقا   تعدو الجياد أمامها ووراها
جرد مسومة على أثباجها      أسد قديم في الحروب بلاها
من آل أحمد زهر أملاك الورى    عز البلاد وغيثها وسناها
عبد الشريعة مكرم علماءها     مولى مواليها عدو عداها
أوفى بذمتها وحاط حدودها     وأطال سمك منارها وبناها
وثنى البغاة عن الضعيف ذليلة    وأقام قسرا درءها وصغاها
وإذا استطالت واستشاطت أمة      يهوى الهواب بكل من ناواها
خاض المهالك مدلجا ومهجرا      بالخيل حتى يستبيح حماها
بسوابق أشباه سيدان الغضا        قب معلى للمتون كلاها
تغدوا إلى الغارات شعثا شزبا      كالطير رائحة إلى مأواها
توري إذا تعنو الحزون مثيرة      نارا ونقعا من متون صفاها
تهدي به أولى الجياد طمرة      عبل على ظمإ الفصوص شواها
قد عودت ألا تؤوب عن العدى    حتى توطأ في الوغى صرعاها
وتحوز كل ذخيرة مصطانة     وتسوق في أصفادها أسراها

تاريخ إمارة اترارزه ، تأليف أحمد سالم ولد باكا ، مخطوط ، ص 347- 349

وفي معرض حديث العلامة أحمد سالم (باكا) عن وقعة (الكصعه) بين أولاد بنيوك وأولاد آكشارأورد هذه الطلْعه الرائعة للأديب محمد ولد هدَارْ يذكر فيها مواضع من برْويْتْ يقول :
منْ عنْــــــدْ أمنْدُور اسَدْبَيْتْ
مسْتَكْبلْ، ساحل نبْكتْ جيتْ
لكباشْ، وُجَيْتْ اعلَ حاشيتْ
الْخوارَه منْ شرْك أفـــــــات
اشْبَيْن وَيَ كـــــــــاعْ اتليْتْ
الْكصْعَه واحْسَــيْ احميْداتْ
انْكَيَلْ عنْدْ إلـــــــــى كَديت
فــــــــــمْ انزَيْلَ من لبَيْدات
واهلَ آمورات التاسدبيـــتْ
اتْجيــــــــبْلْهمْ منْ فمْ اتلاتْ
وافريك إجواجْ إلى عــــــادْ
كاعْ ارحل من عند آموراتْ
يُكَيَلْ، وللَ كـــــــــــالعْ زادْ
واط حدْ اعليهْ ابلمبـــــــاتْ

(تاريخ إمارة اترارزة ص 257)



[1] هو أحمد سالم بن محمذن بن المختار "باگا" بن سيدي بن امَّا بن ألمينْ بن أحمد شَيْنانْ بن الماحْ بن مَحَنْضْ بن محمد يَدَّنْ يعقوب الجد الجامع لقبيلة بني يدّنْ يعقوب "إدَوْ دنْ يَقُبْ" المجلسية نسبا، الشمشوية بالحلف والموطن والخؤولات؛ وأما والدته فهي فاطمة "الملقبة بنتْ النَّب" بنت اليَدَالي بن محمد بن محمذن بن مَحَّمْ بن اجفغ الماحْ بن المختار الوَرعْ بن يحيى بن محمد يَدَّنْ يعقوب،ولد أحمد سالم "باگا" سنة 1901 وانبرى لطلب العلم مبكّرا حيث حفظ القرآن وهو ابن تسع، وجوده وهو ابن إحدى عشرة؛ وقد تولى تحفيظه قارءان من بني عمومته هما عبد الرحمن بن أحمدُو"حامْ" وأحمد سالم بن اجفغ الماحْ "بُتّاهْ"، وكان تجويده في محظرة انْيفْرارْ على يد العالم الجليل أحمذُو بن زياد، وبقي معه برهة من الزمن بعد فراغه من التجويد، وأخذ عنه العلم، كما أخذه عن مُحمَّذنْ بابَ بن دادَّاهْ " إمّني" في محضرة انْيفْرار كذلك؛ ثم تنقل بين محاظر شتى حيث أخذ العلوم، عن مشايخ عدة، فأخذ عن المختار بن عبدي والمختار بن اغْلميت وهما من حيّه، وأحمدو بن محمد محمود بن فتًى الشَّقْروي، وأحمدو بن محمذنْ فال الحسني، وأخذ عن يحْظيهْ بن عبد الودود الجكني ، وأحمد بن الجَمَدْ ومحمد سالم بن ألُمَّا اليَداليَيْن؛ وعن لمرابط محمد سالم ولد ألما أخذ الطريقة الشاذلية، وأجازه فيها فور أخذه لها؛ وعدَّه الناس عالما بصورة تلقائية – كما كان يجري في ذلك العهد- وعمره إذ ذاك يناهز الثلاثين، وفي مطلع خمسينيات القرن الماضي، انخرط في سلك التعليم النظامي مُدرسا في مدرسة "المَحْصَرْ" "حي أمير التَّرارزة" الجديدة النشأة، وذلك على طلب من الأمير محمد فال بن عُمير، وكانت تربط بينهما صداقة حميمة؛ قضى بضع سنوات في سلك التعليم ثم تركه وتفرغ للمطالعة والبحث والتأليف إلى أن توفي رحمه الله، وكان مشاركا في فنون الآداب والتاريخ والأنساب، ويعرف عند أصحاب الاختصاص بالتدقيق والصدق والابتعاد عن المجاملة والمحاباة في تناوله للوقائع التاريخية، توفي رحمه الله سنة 1981 ودفن في مقبرة بئرالسعادة "67 كم شرقي انواكشوط"      (ترجمة إكس ولد إكرك)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق