أولاد بنيوگ : عماد الخالفة الكحله ومأوى الضعفاء

الدكتورأحمد سالم ولد اباه ولد شلا

من تقاليد أقحاح العرب أن يسموا ما يعود إليهم ويخصهم بما يسكنون، لذلك سموا البيت الشعري وأجزاءه بأجزاء من بيت الشَعَروالوبر الذي يسكنون؛ فهذا العمود وذلك الصدر والعجز، والوتد والضرب، وقد نحا عرب المغافرة في إمارة اترارزة على نحوهم فشبهوا جيشهم بالخيمة ظهرا وخوالف وسماكا وعمادا، فكان نصيب أولاد بنيوك وزنبتي، واولاد بوعلي، واولاد اخليفه، والخووات، أن كانوا أساس ذلك الجيش إذ هم الخالفه الكحله.

لم يكن اعتماد إمارة اترارزه على أولاد بنيوك نابعا من فراغ بل كان نتيجة قوة الشكيمة والصبر على الجلاد والوفاء بالعهد وعدم الغدر بما كان آل الشرغي وآل أحمد لمحمًدْ وآل عبد الله تحلوا به من كبرياء تليق بالفرسان وأورثوها كلمة باقية في عقبهم إلى يوم الدين.

وما كان كبيرهم صمب الفلاني تمثل من وصية آبائه وأوصى به بنيه الكرام البررة، وما كان رعاه قوم الصوفي ولد انجًاكْ وبنوه من بعده من الذمم، وما تأسست عليه أركان "الخيمة الكبيرة" كَكيَ وأبناؤه إبراهيم؛ ومحمد فال واعلي، وسيد أحمد، واباه، وما جلبته كريمة ككي من مجد تالد لمنزل زوجها عمر ولد اصنيبه المُخوِلِ في أسرة المجد والفضل آل السنيح فأمه يَوْمَه بنت السنيح، وأخواها محيمدوت وصمب الْمِيرْ عَلَما .

وما جلتبه تسمية لمسيد من بركة ونماء جعلت سُمعة آل لمْسيدْ تعانق السماء بما خلفه الآباء للأبناء من رفعة رعوها حق رعايتها حتى أثمرت توأم "صَوْ" و "وخيرت".

بل وما كان أولاد كروم عليه من نجدة وعفة وإعانة للمكروب وإغاثة للملهوف، توارثتها بيوتاتهم كابرا عن كابر؛ في بيت محمد ولد مس "لمًجلي" ثم في بيت سيد أحمد، وببكر، وأحمد، وستْر سمي خاله ستر ولد انضنكه طيب الذكر، كسائر بيوت أولاد بواعلي التي تزاوجت مع أولاد بنيوك فنتج نسل قاوم مع الزمن أمراض القلوب والأجسام؛ لعراقة محتده وطيب أرومته من أبناء أعمر تَيتَ، وأبناء اعلي ونًاس وغيرهما.

مجدٌ جمعه من أطرافه أبناء محمد ولد بتِي حيث أعموا في قومهم وأخولوا، فجمعوا طارف النسب بتالد الحسب، ولم يكن أقل ذلك أن كانت أمهم مرْيم كريمة الصوفي ولد انجاكْ.

لم يكن القوم من أولاد بنيوك أصحاب نجعة ولا زراعة بل كانوا عصبة محاربة إلى جانب قيم العدل والخير تحت راية أمير متفق عليه، ولم يذكر التاريخ أن سلاحهم توجه صوب إعانة الظالم ولا الغادر، أو لإذلال الضعيف؛ بل كان عونا للأمير الذي تتفق عليه اترارزة فإن اختلفوا كان لأولاد بنيوك مع انفسهم رأي يدافعون عنه وينصرونه صراحة دون تعميق الخلاف بين الإخوة.

وككل التجمعات السكانية تطورت دورة الحياة لدى مجموعة أولاد بنيوك فأخذت أشكالا وأنماطا متعددة من مجموعة تسكن الوبر ثم المدر وصولا إلى الحجر؛ ما بين لمليطه والشمسيات والرش والخمسان وتكشكمبا ودار البركه والرياض والعايدي وبوندرينايه والسطاره؛ حيث تجد أحياء أولاد بنيوك في سهل لمليطه بخيام من الوبر متصلة على مد البصر حاجبة الأفق، وقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت بفعل ماشية البقر والخيل المسومة والأنعام والحرث، ثم في الرش الكبلي بما كان اشوين ولد صمب الفلاني جمعه من نشب حتى غدا مورد الظمآن وملجأ المعتفي، وأمان الخائف وملاذ المظلوم، فأكرم الضيفان، وكفل الأيتام فخلد له الشعر ذلك يقول أحدهم :

أيتام أهلك واهلي تكفل                 كيفت فصال أهلك واهل

فالرش الكبلي والرس ال              وسطاني والرش التلي

توطن القوم الحواضر بعد انتهاء تشييد طريق روصو ونقلوا مدرسة الخمسان إلى الكيلومتر خمسة عشر فظلت وجهة لكثير من الأسر القادمة حديثا من البوادي المنكوبة بفعل الجفاف والتعرية وقد تخرج منها كثير من الأطر المعروفين اليوم من أولاد بنيوك ومن جيرانهم الجدد الذين وجدوا لديهم حلاوة الجار وعافية القادر على الظلم، ومؤازرة المسلم لأخيه، وتقاسم الموجود بل والإيثار فيه، فلقد كان القوم من أولاد بنيوك في حواضرهم كالأنصار في مدينتهم "يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في أنفسهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" توطنت عائلات كثيرة بفضل ذلك المناخ المساعد على العيش والتعلم مازلت أذكر التلاميذ وهم يفدون في الصباح الباكر زرافات وحدانا من كل حدب وصوب فهؤلاء أبناء أحمدُوا وبنات البخاري قادمون من الجنوب الغربي، وذلك الصعيدي هبط وخيدا صحبة أخيه الهادئ حمدا وقد ودعتهما السالمة بنت حمود كريمة الرجل الفاضل الشيخ ولد القاظي، وهذا الفرفار ولد خونه يحمل شيخنا وإخوته في سيارة لاند روفر عتيقة ويستقبله المدير الرزين الوقور محمد ولد الطالب ولد الهيبه الانتشائي، فيتبادلان التحية سريعا رابتا على كتف شيخنا ومررا يده على شعر رأسه الناعم، ومن جهة الشمال يصطحب ابيط ولد إبراهيم العبد بقامته الفرعاء الطفل ولد أهلو ويمر في طريقه على عريش لمرابطه بيكه فيستحثها على التعجيل بإرسال الأبناء ويعرض أخذهم معه إن كانوا متأهبين، أما الموظفون الكبار في روصو مثل حاكم المقاطعة سيدينا ولد الذيب، وقائد المنطقة العسكرية محمد سيدينا ولد سيديا، ومحمد الأمين ولد خطري، وأهل محمد قُلي، وأهل بوي أحمد كلثامه وأخواتها، وأهل الب ولد بابي،ومحمد سالم ولد حمزه السباعي، فلم يكونوا مستوطنين بالمعنى الحقيقي وإنما كانوا مستجمين "يبردون" جلودهم عن باعوض مدينة العابرين روصو وإن بنوا دورا وسيجوها للحارس وكلبه.

وقل مثل ذلك عن حاضرة دار البركة 14 كلم من روصو فقد توطنتها أسر الفضل والكرم والإيثار والرفعة من أولاد بنيوك وهاجر إليهم من أرض الذراع مثلهم وأضعافهم فكان التعايش والتراحم والتعاون ديدنهم، وصفاتهم التي بها يُعرفون، فهذه عائلة أهل الطالب: الحسن والمختار ومن بعدهم أحمد طال توارثوا العلم والمعرفة وأخذوها بحقها تعليما ونصيحة، وكذلك أهل عمر اطفيل، وأهل محمد فال إبراهيم ومحمد فال ومحمد، ومن آل مكت اليدالي والبشير ومن بعدهما إبراهيم الذي كان أعجوبة في التسديد والرمي بحصيات حجر صغيرة تصيب أهدافها البعيدة الدقيقة بنِسب عالية.

وممن توطن قرية دار البركة  من غير أولاد بنيوك آل باب بن حمدي من آل الطالب أجود الشرفاء : المختار(حتا) بن باب وأبناؤه، ومن الحاجيين باب شمش وقومه، ثم أهل حامدن ولد امًا، وأهل طيفور الشرفاء، وباب بن حامي ، وابنه عبد الحي الذي كنت أغبط غدوه ورواحه إلى سورية دارسا للطب ثم طبيبا جراحا حاذقا بأصول مهنته، خلوقا بشوشا في وجه من يعرف ومن لا يعرف، ومن تلك الأسر التي ألف الدهر بينها أهل بيجاري، وأهل البانون ولد محمود وابنهم الظريف إسلكو، وأهل محمد فال ومحمد سالم ابني عبد الله ولد السالم، وآل صمب بتاكلي الوافدين من النمجاط، وابنهم انويجح كان معلما في ثمانينيات القرن الماضي يتجول بين قرى اترارزه، ومنها قرية بنفاكي وفيها كان مربيا خلوقا متواضعا كيسا، وأهل محنض ولد الصوفي وكريمته المرأة الصالحة احديد بنت متالي، وابنهما أحمدو بمب ولد الصوفي عمل أستاذا جامعيا بقسم الترجمة في الشعبة الفرنسية والتحق مبكرا بجماعة الدعوة والتبليغ رحمه الله فقد كان شديدا في الحق وله في ذلك قصص تُروى.

كانت دار البركة آمنة مطمئنة ياتيها رزقها رغدا من كل مكان، وخاصة من مدينة العابرين روصو التي لم تبخل يوما علينا بأنواع مما يجلبه المتعالجون طرفا من النهارأو زلفا من الليل في المستشفى والعائدون إلينا معا أو منقوصين، لم نكن نعير ذلك النقص كبير اهتمام حيث ننشغل بفاكهة المانجو وأنواع المقليات والمشويات  التي تمطرنا بها لكوارب كل مساء رسائل واصلة مع التجار الهاربين من البعوض، والموظفين والطلاب في عطلة نهاية الأسبوع.

تبدأ الحاضرة يومها بمرور سيارات النقل الجماعية "النيكبات" لتُقل التجار والموظفين إلى لكوراب، يكون أولهم مرورا يوسف ولد اكنيني ويليه محمد ولد البينان، ثم يأتي باب ولد إبراهيم العبد، ويكون في انتظار الجميع عند مدخل المستشفى السمسار "امبي" ولد باب ولد الطالب الذي سيعتني بإرسالهم أفواجا طوال اليوم قبل أن يصطحب آخرهم رواحا وأولهم غُدوا بدين ولد البُ ولد اعلي وناس، الذي يختص من بينهم كذلك باصطحاب "هاو" جالبة الأسماك، فيرمقها الأطفال حين تنزل أمام حانوت "بكول" فيتنادون أن حي على السمك والخضار، تنطلق النسوة بأوانيهن، ثم تعدن الأدراج وقد ملأنهن أقطا وسمنا، ليس حانوت بكول وبنات ياريم ليس وحده من يخطب رضا الزبائن بل إن محمدو ولد بدن الحسني وباب ولد حامي وفاتُ بنت مسيت لهم بالمرصاد مع اختلاف طرق الاستجلاب والإرضاء والخدمة وسعة ذات اليد والطبع التي مكنت بعضهم من تقييد أسماء القائمين على الأسر في دفاترهم، بينما منعت بعضهم إلا من المعاملات الناجزة هاء هاء، يختص ولد بد باستغلال الأطفال لتحريك ماكينة الخياطة مقابل بعض المكسرات والحلوى، والحق أن الكثير من الأطفال يستهويه الأمر في البداية لكنه سرعان ما يتبين أن بالامر استغلالا غير قليل لجهدهم ووقتهم فيتخلون عنه ويتحلون بالصبر عن مكسراته وحلوياته.

كان أبناء الحي – وأنا منهم - يرتادون مدرسة دار البركة، وكان معلمنا الأول محفوظ ولد حيمده يحرص على تحفيظنا بعضا من جوامع الكلم، وكان يشفق علينا من بعضنا فقد كانت الأعمار مبتاعدة في صفنا مما نتج عنه نوع من الاقطاعية والاستغلال فكنا نلجأ إلى عائلات تحيط بالمدرسة طلبا للحماية من بطش "باب" ولأجل الشراب السائغ من قدورهم الطيبة الباردة، وربما استرقنا النظر لأجهزة التلفزيون والفيديو النادرة آنذاك، فنلج دار أهل الفيجح، وأهل سانتوي، وأهل لخويمه، وندلف تارة أخرى إلى منزل أهل لمام، وآل عبد الديم محمد والحسن، وإبراهيم والوالدة الفاضلة منْتُ بنت الطالب وبناتها الفضليات : گايده ومناهْ ومريم بابَ ومنزلهم العامر بشجره الوارف الظليل خاصة حين نتفيؤ ظلالَه بعد تناول غداء "الكانتين" الساخن بإشراف الوالدة رحمة، وفي يوم قائظ تحت رحمة سياط المدير محمد ولد انجبنان، أتذكر ذلك الشجر أيضا حيث أجد في ظله سيارة لاند روفر علمت فيما بعد أنها لطيب الذكر محمد ولد صمب الفلاني القادم للسلام على ذويه من المذرذرة حيث أمه العالية بنت اعْلَيَ من أولاد أحمد بن دمان، وحيث كريمته الطبيبة الخارقة أم الخير بنت الزايد، وحيث مجده الذي شاده لنفسه وبنيه في المذرذرة وما حولها بعيدا عن مضارب قومه من أولاد بنيوك، وقد توفي رحمه الله سنة 2014 فقلت في رثائه :

الموتْ الا تخترْ فالنـــــــــاس      اتْنَكِ ذاكْ الْ يُنَــــــــــكَ

منها، كيفتْ محمدْ ســـــــاسْ      الصَنكَ والغيـــر الصنكَ

لُكـــــــــان الِ معدنْ الانسان       كافيهْ من الطبعُ لحسـانْ

والتواضع واطلوع الشـــــأن      يكفَ محمدْ بـــــــيهْ الكَ

من الاثْنَيْنْ الشــمـــاتْ اعنانْ       ديــــــنْ واخلاقُ ذُ شكَ

بــارك فامناتُ وافشيخـــــانْ       واطولْ عمرُ مـــــا يَبْكَ

والرحمه هــــــي َ والغفرانْ      والفرْدَوسْ الِ يتْلــــــــكَ

كانت وسائل الترفيه نادرة بل قل معدومة إلا ما كان من كرة القدم حين ينظم دوري القرى المجاورة فيتنادى شباب أولاد بنيوك إلى ملعب دار البركة في منافسة كروية لم نك نملك فيها إلا التشجيع وإحضار الكرات الضائعة عن يمين وشمال حارس المرمى الأسطورة بواسحاب أو "امبوس" كما يحلو لبعضهم مخاطبته، أما فرصتنا نحن فكانت حين يغيب معلمنا فينادي المدير محمد ولد اعماره بصوت جهوري وبلكنة فرنسية لا تخلو من غلظة أن حي على الرياضة في الساحة الخلفية للمدرسة، فتضج الساحة ويبدو الفرح في وجوهنا فلا يقطعه إلا درس الفرنسية مع مدرسها باباه ولد أحمدُوا صاحب القرصة النارية للآذان، وأحيانا نشنفها بدرس من اللغة أو من السيرة مع المدرس الهادئ الخلوق الرزين محمدِ بن باب بن حمدي، أو يدخل علينا المدرس المحبب إلينا جميعا عبد الكريم بن انتغري.

أما قرية الرياض فكانت بالنسبة لي الفردوس المفقود، وكنت أتحين الفرص للذهاب إليها متعللا بالسلام على أسر من أقاربي هنالك؛ لأمرَ على منافسي في الدراسة عبد الله ولد أعمرن وأخته مريومه، فلطالما تحججت للوالدة بيكه لتبعثني مسلما أو رسولا إلى أهل انكم أو أهل جمال حتى أزور منزل أهل أعمرن؛ كان عبد الله ينافسني حقيقة في الرتبة الأولى فكنت معجبا به وبهدوئه وهندامه وسمته، أما أخته فكانت كسولة لا ترغب في التعلم بل كانت توجه اهتمامها لأشياء أخرى كإحضار أنواع من الخبز والحلوى إلى المدرسة لتوزيعها على أبناء الفقراء من أمثالي إغراء لهم وفتنة.

كانت الوالدة بيكه من اللائي يروضن الأطفال على التعامل مع الحرف العربي قراءة وكتابة؛ حتى يصبحوا على استعداد لقراءة القرآن وولوج المدرسة الابتدائية، ومثلها في ذلك أختاها فاطمة الزهراء (الديد) ونبغوها، كانت الديد في حاضرة العايدي ثم انتقلت إلى دار البركة تحت طلب أهل أعمر جوب، أما نبغوها فكانت في بيت آل عبدالله من أولاد يحي الكونانيين، وقد وفر لنا وضعنا بوصفنا أبناء لمرابطه نوعا من الحماية خاصة حين نكون بعيدا في ملعب كرة القدم، أو في مطاردة الأرانب، أو في رحلة البحث عن العلك و"توكه"، رغم أن ذلك لم يكن يمنعنا من التعرض لمضايقة أطفال لا يرتادون لمرابطه أو آخرين وجدوا في معاملتها بالشدة لهم فرصة للقصاص منا، غير أن الغالب الأعم كان وما يزال وضع الاحترام والتقدير بوصفي "ول لمرابطه" قابلتهم رجال أمن دركيين وشرطيين على الحدود وفي المطار وفي شنقيط واشكيك وكوكي الزمال، ثم قابلت بعضهم محاسبين في مؤسسات عمومية، وأساتذة وإداريين، ودعاة ورجال أعمال ناجحين، وفاعلين سياسيين، وصحافة وقادة رأي عام، وكلم خاطبني باختفاء وتعجب " أيْ ولْ لمرابطه أخباركْ هونْ" .