عدد متابعي الموقع الآن

الاثنين، 8 نوفمبر 2010

حصاد نصف قرن (2): معركة إثبات الذات ( تابع )


تداعى إلى ذهني هذا القول المأثور، وأنا أتابع بعض ما يكتب هذه الأيام في الصحافة في ذكرى الاستقلال، فحتى وإن لم يكن الاستقلال الذي حصلت عليه البلاد يوم 28 نوفمبر 1960 من النوع المأخوذ "غلابا" كما يحلو للبعض أن يصوره بعد عقود من ذلك واختلاف الظروف المحيطة بالبلد حينها، إلا أنه كان حدثا مهما!

وأول عناصر أهميته وأكثرها وجاهة في نظري، هي أنه أسس لأول مرة منذ قرون، لكيان سياسي جامع لطيفٍ واسعٍ من التشكيلات السياسية الصغيرة، وغير المتجانسة وذات العلاقات المعقدة والمتشابكة.

وهذا العنصر وحده يعتبر كافيا، لجعل الاستقلال المنقوص فعلا، حدث القرن في هذه الربوع، التي لم تعرف حكما مركزيا واحدا وموحدا، منذ عهد المرابطين، و"تغريبتهم" الشهيرة إلى المغرب والأندلس.

كان إذا حدثا كبيرا، ولنا أن نتصور الظروف التي حصل فيها، ولننسى قليلا أن فرنسا وقتها كانت فينا من الزاهدين، نحن وجمع غفير من المستعمرات القريبة في إفريقيا الغربية والشمالية، وكانت تقودنا شئنا أم أبينا إلى أن نخرج من تحت عباءتها، لأنه أصبح أفضل لها أن تترك استعمارنا المباشر، وتعوضه بآخر أقل وقاحة، وربما أكثر وأفضل مردودا.

لكن المشكلة أننا لم نكن كالآخرين، مهيئين للأمر، بفعل عدة عوامل وظروف متشابكة.

فقد كنا أقل المستعمرات الإفريقية حظا من الاهتمام الفرنسي في مجالات البنية التحتية وتكوين الأطر العليا المؤهلة لإدارة البلاد، وعلاوة على ذلك كانت هناك تقاليد طويلة من "السيبة" لم ترد باريس معالجتها بل إنها قد تكون عمقتها وغذتها، وهذه التقاليد تجعلنا عمليا غير مؤهلين لإقامة دولة بالمفهوم العصري، على الأقل في ذلك الوقت.

ومما زاد القضية صعوبة، أن مجتمعنا كانت تغلب عليه البداوة، وحتى وإن لم تكن البداوة في حالتنا، نقيضا صريحا لبعض جوانب الحضارة بمفهومها الواسع، فإنها لم تؤسس بأي حال من الأحوال، لممارسة سياسية تصلح للتأقلم مع مفهوم الدولة.

وخلافا للجيران شمالا وجنوبا، كنا الأقل انسجاما من الناحية العرقية، وحتى وإن كان ماضي العلاقة بين المجموعات الوطنية خالٍ تقريبا من أي نزاع ذي طابع عرقي، فقد كانت العلاقة بين هذه المجموعات، خالية كذلك من الاحتكاك بمفهوم التعاطي والشراكة السياسية.

وكانت العلاقات ظرفية وسطحية بين القيادات السياسية لهذه المجموعات إلى حد بعيد، بحيث أنها لم تتجاوز نوعا من التواصل المحدود، لحل الخلافات التي كانت تظهر بين أفراد ينتمون إلى بعض هذه المجموعات، وأغلب ذلك يتم في إطار خريطة ضبابية من التحالفات، كتلك التي كانت قائمة بين مجموعات هليبة وأمراء لبراكنة، وكذلك أمراء اشراتيت وبعض المجموعات في الضفة القريبة من آفطوط وكيدي ماغه وعلاقات أمراء اترارزة بسكان شمامة من انجاكو إلى الدويرة مرورا طبعا بانتيكان وجدر المحكن.

ولاشك أن المستعمر الذي دخل البلاد بعد رحلات استكشافية، غاصت بعيدا في نفسية وتركيبة المجتمع، لعب على ورقة عدم الاحتكاك بين المجموعات، وعمل في علاقته بمختلف الأطراف على تغذية وتعميق الاختلاف وتنمية مظاهر عدم التجانس، وتجلى ذلك في تشجيع سكان الضفة على دخول هيئات الإدارة المحلية بشكل أكبر، وإقامة نوع من المؤسسات المدنية في قرى ومدن هذا الجزء من البلد يختلف بالكامل عن آليات الحكم في مناطق البيظان.

وجعلت هذه المعطيات مناطق الضفة مع فجر الاستقلال الأفضل تجهيزا - ولو نسبيا - من ناحية البنية التحتية والأكثر أطرا وكذلك الأفضل تأهيلا مقارنة بنظرائهم في الشمال.

ومما زاد اللوحة قتامة المطامع الخارجية للاستحواذ على الأراضي الموريتانية مع ظهور بوادر رحيل المستعمر، وهي مطامع أتت من مختلف الجهات تقريبا، وإن كانت المطالبة المغربية التي استمرت نحو عقد من الزمن بعد الاستقلال، أكثرها جدية وحدة وتصميما والأطول مدة!

وبالنظر إلى الشبكة الواسعة من المعطيات السياسية والدينية والاجتماعية والتاريخية في معركة الاستيلاء على الكيان الذي كان يتأهب للخروج للدنيا تحت اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية، فإن المطالبة المغربية بقيت الأكثر حضورا في أذهان الأجيال المتلاحقة، إلا أنه كانت هناك مساع سنغالية ومالية أقل وضوحا وأقل حدة وأقل شمولية، للتأثير في مسار الأحداث التي أفضت إلى قيام الكيان الموريتاني في صورته اليوم.

واتخذت المساعي المالية والسنغالية صورا شتى، كانت أفضلها تسويقا لدى الرأي العام "اتحادية مالي" التي كانت تقدم نفسها على أنها إطار سياسي مشترك بين مالي والسنغال وموريتانيا، يصهر الكيانات الثلاثة في دولة واحدة.

وإلى جانب ذلك كانت هناك محاولات سنغالية لفرض نوع من حق الوصاية على حقوق الزنوج الموريتانيين في إطار الدولة الجديدة التي بدأ بعض السياسيين السنغاليين يتحدثون عن الطابع البيظاني الغالب عليها، وتغذي هذه الرؤية مركزية السنغال في السياسة الاستعمارية في غرب إفريقيا، وفي الذهنية العامة لسكان غرب إفريقيا، والمكانة التي يحتلها الرئيس الشاعر ليوبولد سيدار سينغور كحاد لفكرة الزنوجة.

أما على الجبهة المالية فلم ينس الماليون منطقة الحوض التي ظلت تابعة للسودان الفرنسي (مالي) قبل أن "تقتطع" أواسط الأربعينات وتلحق بمستعمرة موريتانيا، وقد ظلت مالي تطالب ببعض المناطق في هذا الجزء من البلاد حتى بعد الاستقلال بسنوات، قبل أن يتوصل البلدان إلى سلسلة اتفاقيات لترسيم الحدود بينهما.

والواقع أن المطالب المالية في الأراضي الموريتانية لم تكن نابعة من أسباب داخلية بحتة، فلم تكن بعيدة عن خط التحالفات التي ظهرت في القارة الإفريقية مطلع الستينات، مع انقسام دول القارة، إلى مجموعات متمايزة في التوجهات والأهداف والمرجعيات.

وكانت مالي في هذا الإطار ضمن مجموعة تضم المغرب، الذي كان يطعن في شرعية وجود موريتانيا، ولهذا فقد استخدمت الرباط العلاقة الخاصة بين البلدين في هذا الصراع، ووصل الأمر إلى أن كانت بعض المدن المالية منطلقا لعمليات مسلحة ضد الكيان الموريتاني ك"عمارة النعمة"، واستضافت لفترات قيادات من المعارضة الموريتانية التي كانت تتبنى الطرح المغربي.

في هذه الأجواء النفسية الخاصة جاء الاستقلال، وتلاحقت الأحداث بشكل ضاغط داخليا وخارجيا، ففيما كانت الدولة الناشئة، تحاول إرساء نظام جنيني يبسط نفوذه على أراض شاسعة، تسودها العصبيات والتنافرات القبلية، ويكاد يتخطفها الطامعون من كل الجهات، كانت نوافذ البلاد على الخارج محدودة، مما تطلب خوض معركة دبلوماسية شاقة، كانت ضربا من المستحيل بالنسبة لبلد محاصر، وبلا موارد ولا مقومات وجود حقيقية على الأرض.

لا يمكن بالطبع أن نغفل الإسناد الفرنسي في هذا الشأن، ولكن لا يمكن كذلك أن نلغي دور جيل الاستقلال في الوصول إلى اعتراف دولي، لم يفتأ يتعزز ولو ببطء طيلة العقد اللاحق لإعلان الاستقلال.

ومن الواضح أنها كانت بالفعل معركة شرسة، لم يكن النصر فيها سهلا، كما قد يتصور البعض اليوم، فالمغرب الذي كان يعتبر موريتانيا امتدادا لأراضيه، كان يملك جيشا من المدافعين عن طرحه داخليا بينهم شخصيات موريتانية تملك رصيدا من التأثير والوجاهة والزخم الشعبي.

وكان يتحرك في خريطة واسعة من التحالفات المساندة عبر العالم، حتى داخل فرنسا التي تعتبر الداعم الرئيسي لموريتانيا، وهي خريطة تغطي كامل العالم العربي تقريبا، وأجزاء واسعة من إفريقيا بالإضافة إلى تعاطف واسع في دول ما كان حينها يعرف بالمعسكر الشرقي، علاوة على الدعم التقليدي الذي تتمتع به الرباط ذات العلاقات الخاصة في المعسكر الغربي.

في مقابل ذلك لم تكن أمام موريتانيا خيارات واسعة، فما عدا فرنسا لم يكن متاحا لها الاعتماد على إسناد يذكر، إلا في تونس وعواصم افريقية بعيدة نسبيا عن نواكشوط.

وبالنظر إلى هذه الصورة الخاصة لم يكن الحصول على عضوية الأمم المتحدة، بعد نحو عام من إعلان الاستقلال كافيا لإحراز السيادة الخارجية كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل لقد ازدادت حدة المطالبة المغربية، وأخذت منحى عصبيا جسده النزوع نحو العمل المسلح مجددا يدعمها في ذلك العمق المالي وبدرجة أقل وضوحا السنغالي.

وكانت ثاني المكاسب التي حققتها الدبلوماسية الموريتانية بعد ثلاث سنوات من الاستقلال، تسجيل اسم موريتانيا كعضو مؤسس لمنظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا، ومن هذه المدينة الإفريقية البعيدة جغرافيا ونفسيا عن الصراع غير المتكافئ بين نواكشوط والرباط، طرقت الدبلوماسية الموريتانية باب العالم العربي من خلال لقاء "عابر" بين الرئيسين الراحلين المختار ولد داداه وجمال عبد الناصر.

لم يكن ذلك اللقاء العابر كما صوره ولد داداه نفسه في مذكراته، وكذلك محمد فائق مستشار عبد الناصر، كافيا لمحو آثار سنوات من الحملات المغربية، التي كانت أقواها الجولة الواسعة والمشهودة، التي قام بها ملك المغرب الراحل محمد الخامس في المشرق العربي، ترافقه وجوه موريتانية بارزة تدعم الانضمام للمغرب.

لم يكن اللقاء كافيا للعبث بكل عناصر الانطباع الذي خلقته الدبلوماسية المغربية، طيلة سنوات في العواصم العربية، حيال ما كان يسمى في الأدبيات الرسمية العربية حينها "قضية موريتانيا"، لكنه كان بداية مسار سينتهي، باعتراف أغلب الدول العربية باستقلال موريتانيا قبل نهاية الستينات.

وقد توجت هذا المسار موريتانيا والمغرب، بطي سنوات صراعهما القاسية، باعتراف متبادل، كانت أبرز إرهاصاته خلال القمة التأسيسية لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الرباط عام 1969، والتي حضرها ولد داداه بدعوة رسمية من الملك الراحل الحسن الثاني، ولعلها من المرات النادرة التي يزور فيها رئيسٌ دولةَ أخرى في غياب أي علاقات دبلوماسية بينهما

بقلم: محمد ولد حمدو/ طهران - إيران

نقلا عن أقلام حرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق