عدد متابعي الموقع الآن

الخميس، 11 نوفمبر 2010

حصاد نصف قرن (3): سنوات الأمل .. نحو اليسار



بعد استكمال الاعتراف الخارجي باستقلال البلاد، والقبول بالكيان الموريتاني في صورته الحالية، بدأت حقبة أخرى، كانت أبرز ملامحها المزيد من "الفتوح" الدبلوماسية في الخارج، وتصاعد في الرفض الداخلي للإبقاء على علاقات خاصة مع المستعمر السابق، ومطالبة بتغيير بنيوي في وجه البلاد، من خلال ترسيم اللغة العربية وتأميم الثروات الوطنية.


مع اعتراف المغرب باستقلال موريتانيا، انطلقت الدبلوماسية من عقالها، صوب وجهات لم تكن تخطر ببال الكثيرين، وخرجت عن الإطار التقليدي الذي رسمته لها فرنسا، بحكم العلاقة الخاصة الموروثة عن العهد الاستعماري، وكان ما أطلق عليه البعض أيام المجد الدبلوماسي، بالرحلة الطويلة التي قام بها الرئيس ولد داداه في عدد من البلدان الآسيوية البعيدة، وتدشين العلاقة الخاصة مع الصين، والتي كانت في وقتها مثيرة للجدل، وأثارت ردود فعل غير مرحبة في المحور التقليدي لتحالفات البلاد، خاصة في فرنسا والسعودية لأسباب مختلفة بالطبع.


وفي هذه المرحلة كذلك ترأست موريتانيا، لفترتين متتاليتين منظمة الوحدة الإفريقية، ومن خلال ذلك حافظت على حضور مميز في المحافل الدولية، قبل أن تتوج كل ذلك بالانضمام رسميا إلى جامعة الدول العربية، وقيام البلاد بوساطات ناجحة في رأب الصدع في إفريقيا وتقريب وجهات النظر بين بعض الأصدقاء عبر العالم، والقيام بنشاطات أكبر من حجم البلاد التي كانت تصنف وما زالت ضمن أضعف بلدان المعمورة.


وعلى الصعيد الداخلي واجهت البلاد امتحانا عسيرا كاد أن يعصف بوحدتها الوطنية في عام 1966، حين اندلعت احتجاجات واسعة ضد إصلاح التعليم، الذي أعطى اللغة العربية، بعض المكانة في المدارس الموريتانية، مما أثار حفيظة بعض الأوساط الزنجية، التي تنظر بخشية إلى أي خطوات بهذا الشأن، وتعتبرها على حساب هويتها ومكانتها في البلد.


ومنذ نهاية الستينات بدأت المعارضة القديمة في الانحسار، مع طي ملف المطالبة المغربية، لتظهر معارضة من نوع جديد، أبرز تشكيلاتها الطلاب والتلاميذ والموظفون الصغار، وتعتمد آليات جديدة في التعبئة وتحريك الشارع، يغلب عليها الطابع اليساري، الذي كان موضة العالم في ذلك الوقت.


واجتاحت الشارع الموريتاني حركة احتجاج واسعة وغير مسبوقة، انطلقت من أحداث ازويرات 1968 واستمرت مدا وجزرا حتى منتصف السبعينات، وكانت هذه الحركة ترفع شعارات، تدعو لتأميم الشركات الاجنبية التي تستنزف موارد البلاد خاصة المنجمية، وترسيم اللغة العربية، وتغيير مناهج التعليم ومراجعة الاتفاقيات المبرمة مع المستعمر السابق، خاصة في المجال العسكري.


كان عنوان تلك المرحلة هو "الكدحة" وهي حركة شملت مناحي كثيرة، ومناطق واسعة من البلاد، اصطدمت بقوة بالنظام من خلال المظاهرات الكبيرة التي سيرتها ضد الحكومة، وتميزت بقوتها في النشاط السري ، فكان أن ردت الحكومة بحملة اعتقالات موسمية واسعة، تطال أعدادا كبيرة من منتسبي هذه الحركة والمتعاطفين معهم، رافقتها أخرى اعلامية، صورت الكادحين على أنهم في تناقض جذري مع كل قيم المجتمع خاصة الدينية.


ولكن الرد الأهم والأكثر نجاعة، هو تبني الحكومة سياسات تترجم الشعارات التي يرفعها الكادحون، وكانت قمة ذلك مع إعلان تأميم ميفرما، ومراجعة اتفاقيات التعاون مع فرنسا، وإنشاء البنك المركزي الموريتاني والخروج من منطقة الفرنك الإفريقي وسك الأوقية، وهي إجراءات جسدت مطلع السبعينات، نوعا من السعي نحو تكريس الاستقلال الحقيقي، كما كان ينادي بذلك المعارضون، الذين يملؤون الشوارع احتجاجا منذ سنوات.


وسرعان ما هدأت حركة الاحتجاج وفُتحت قنوات الاتصال بين الحكومة وقيادات من هذه الحركة الشبابية لنرى بعد سنوات طويلة من التناقض الطرفين جنبا الى جنب داخل حزب الشعب الحاكم والوحيد في البلاد.


كان ذلك إذا عنوان مرحلة جديدة، لكنها لن تعمر طويلا، لا لأن قرار بعض الكادحين بدخول هياكل النظام وفق شعار التغيير من الداخل لم يكن محل إجماع، ولكن لأن البلاد ستفاجأ بالتطورات المتلاحقة لما كان يعرف بعملية تصفية الاستعمار الاسباني في الصحراء الغربية.


كان إذا أن دخلت البلاد في حرب مفتوحة مع جبهة البولزاريو بعد توقيع اتفاقية تقاسم الصحراء مع المغرب، وهي الحرب التي وضعت على عاتق جيش قليل العدد وضعيف التجهيز، حماية أراضي شاسعة في مواجهة مقاتلين، ليس لديهم ما يخسرونه. ولم تلبث الحرب أن جعلت اقتصاد البلاد، وأهم مدنها في مرمى المقاتلين الصحراويين وهو ما أسهم إلى حد كبير في التعجيل برحيل نظام الرئيس ولد داداه والدخول في مرحلة جديدة مع أول انقلاب في سلسلة الانقلابات التي تعاقبت على البلاد منذ ذلك الحين.

محمد ولد حمدو - طهران

نقلا عن أقلام حرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق