
يوم العاشر يوليو 1978 لم يكن يوما عاديا في نواكشوط، ففي فجر ذلك اليوم القائظ سمعت موريتانيا لأول مرة من إذاعتها اليتيمة العتيدة البيان رقم واحد، سمفونية عرفتها قبلنا بلدان كثيرة في الجوار القريب كما لدى الأباعد، وستتعود عليها أسماعنا طويلا، بتوقيعات مختلفة وبذرائع متباينة، لكن المضمون سيبقى دون تغيير.
كما في الحالات المشابهة أعتقل الجيش الرئيس المدني، وأقال الحكومة، وعلق العمل بالدستور، وحل حزب الشعب الحاكم وكل الهيئات المرتبطة به بما فيها البرلمان، كان ذلك إيذانا بمرحلة جديدة، ستتخلص شيئا فشيئا،عن قصد أو عن غير قصد، من تراث المرحلة السابقة، فقد خرجت البلاد خلالها من الصحراء الغربية، وانكفأت الدبلوماسية الموريتانية على نفسها، ولم يعد لها ذلك الدور الفاعل حتى في المجال القريب، وتراجع حضورنا في محاور التحالفات، وطال انتظار العمل من جديد بدستور البلاد ، واضطربت بشكل كبير سياساتنا الداخلية في مجالات التنمية المختلفة.
لم يلبث الحكام الجدد أن أخرجوا البلاد من حرب الصحراء بالانسحاب الكامل من الأراضي التي عادت للبلاد بموجب اتفاقية مدريد لعام 1975، وأحكم الجيش قبضته على الحياة العامة، لتعرف البلاد سلسلة انقلابات، وثورات بلاط متكررة، لم يسمح تقاربها، بتبين ملامح واضحة للنظام السياسي ولا التوجهات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة، وإن كانت بداية هذه المرحلة شهدت حدثا بالغ الخطورة، تمثل في إصلاح التعليم الثالث منذ الاستقلال، وهو اصلاح كرس بحسب الكثيرين، الفصل في المدرسة، ولاحقا في كل مناحى الحياة العامة بين أبناء القوميتين العربية والزنجية، وذلك باعتماد منهج دراسي مختلف لكل منهما.
امتدت هذه الفترة سنتين تميزتا بعدم الاستقرار السياسي وانتهتا بوصول الرئيس محمد خونا ولد هيدالة الى السلطة، ليبقى فيها نحو أربع سنوات، شهدت إرساء نظام سياسي متقلب المزاج، أدخل البلاد في خريطة تحالفات جديدة، تحالف مع الجزائر وليبيا بشكل واضح على حساب فرنسا والمغرب، وأقام علاقات ضبابية مع حلفاء تقليددين آخرين مثل السنغال والسعودية.
وكادت الحرب تندلع في ظل هيدالة مع المغرب الذي كان يأخذ على نظام نواكشوط قربه من الجزائر وخاصة السماح لمقاتلي البولزاريو باستهداف الأراضي المغربية انطلاقا من شمال موريتانيا.
وفي المجال الداخلي اتخذ هيدالة عددا من الاجراءات التي وصفت بالجريئة، والارتجالية في ذات الوقت، كالإصلاح العقاري والغاء الرق وتطبيق الشريعة الاسلامية، إلا أن أبرز ما تميز به ذلك العهد هو إنشاء نواة جنينية لما كان يراد له أن يكون الأداة السياسية للنظام " هياكل تهذيب الجماهير"، وهي بنية يصفها منتقدوها بأنها تحولت إلى توابع استخباراتية واسعة الانتشار، رغم شعارات العمل التطوعي، والتعبئة الإجتماعية للصالح العام التي كانت ترفعها.
ويحتفظ الكثيرون للرئيس هيدالة بنوع من الإحساس بهيبة الدولة، وإن كان المنتقدون يعتبرون أن التصور "الهيدالي" للسلطة كان بدائيا، أشبه باسقاط لمفهوم الانضباط داخل سرية صغيرة من الجنود، لا يتلاءم مع الدولة الحديثة، التي تتشعب مرافقها، وتتعدد، مما يجعل مركزية رقابتها، كما كان يحلو له ان يفعل، بالزيارات المفاجئة، والطلعات والتخفي، امرا غير واقعي وغير ناجع.
والتصقت صورة النظام في أذهان الكثيرين بالتضييق على الحريات وملاحقة المعارضين الذين ازداد عددهم واتخذوا من الخارج قواعد للتحرك ضد الرئيس هيدالة خاصة في فرنسا والمغرب وحتى في السنغال.
ولكن الطريف أن هيدالة الذي أنفق الكثير من وقت وجهد أجهزته و"هياكله" في ملاحقة المعارضين المدنيين، جاءه الخطر من حيث لم يكن يحتسب ، فمن أقرب المقربين جاءت فكرة التخلص منه، بعد ما ضاق به ذرعا الحلفاء التقليديون للبلاد.
وكان أن استغل قائد أركانه معاوية ولد سيد أحمد الطائع غيابه عن البلاد، للمشاركة في قمة افريقيا فرنسا في العاصمة البروندية بوجمبورا، للانقلاب عليه في " حركة تصحيحية"هادئة، يوم 12 دسيمبر 1984، لم تغير الكثير - على الأقل في البداية - من ملامح النظام.
بحكم اختلاف شخصيتي الرجلين، وتباين خلفيتيهما الفكرية، والظروف المحيطة بالبلاد في تلك الفترة، بدأ النظام في الإتجاه التدريجي نحو شيء من الانفتاح، دشنه الرئيس الجديد، بفترة سماح مع أغلب الحركات السياسية، التي كانت تنشط في الداخل والخارج بدرجات متفاوتة، ثم جاءت تجربة أول انتخابات بلدية شاملة تشهدها البلاد على مراحل، خلال ثلاثة أعوام بين سنتي 1986 و.1988
لكن التجربة التي مرت دون مشاكل تقريبا لم يتبعها - كما كان متوقعا - انفتاح أكبر وأوسع على الحركات السياسية، يؤسس لعلاقة جديدة، تزيل عن النظام شيئا من تأثير القبعة العسكرية الضاغطة، بل شهدت علاقات السلطة بهذه الحركات توترات موسمية، نتجت عنها مواسم اعتقالات، لم تنج منها أي من التنظيمات السياسية المعروفة.
ولكن الامتحان الأكبر لنظام ولد الطائع في طبعته العسكرية كان أحداث 1989، والتي وضعت البلاد على حافة انفجار عرقي، تجنبته السلطة الى حد ما، لكنها لم تنجح في "تسيير" تبعاته بنجاح مماثل، مما جعل هذه التبعات تتواصل خلال السنوات اللاحقة، وما زال الحديث بشأنها يطفو على السطح من حين لآخر.
وأثارت بعض جوانب هذه السياسة الداخلية، وكذلك مجمل توجهات السياسة الخارجية للنظام في تلك الفترة بعض عدم الارتياح، لدى الدول المهتمة تقليديا بموريتانيا، وفي طليعتها فرنسا التي لم تكن تنظر بعين الرضا، إلى التحالف الذي توثق في تلك السنوات بشكل لافت بين نواكشوط وبغداد.
كما لم تتفهم دول الخليج العربية خاصة السعودية والكويت مواقف موريتانيا المساندة للعراق خلال احتلاله الكويت، وهو ما زاد من عزلة النظام، الذي كانت علاقاته في حالة برود مع الجار الشمالي "المغرب" منذ ما اعتبرته نواكشوط وقوف الرباط إلى جانب داكار في خلافهما الذي أدى الى قطع العلاقات الدبلوماسية بين موريتانيا والسنغال في عام 1989.
رافق ذلك انحسار في تعاطي الحكومة مع الحركات السياسية التي تتقاسم الساحة ولو سرا ، ولم تتأخر هذه الحركات في العمل على استغلال الاحتقان الداخلي، والضغوط الخارجية، لتحريك الساحة، وانتزاع بعض المكاسب من نظام معزول، أو في أحسن الأحوال في قطيعة مع أغلب عناصر خريطة تحالفاته التقليدية.
في هذا المناخ الخاص أعلن ولد الطائع في ابريل 1991 دخول البلاد مرحلة جديدة، تبدأ باعتماد دستور جديد، وتنظيم انتخابات تشريعية، ورئاسية تعددية، واعتماد قوانين تنظم الممارسة السياسية، والحريات الصحافية والنقابية.
كانت تلك مجرد مناورة بحسب الكثيرين، لالتقاط الأنفاس، وتخفيف الضغط، واستراحة محارب، قبل العودة للميدان في ثوب "مدني ".
بقلم محمد ولد حمدو / طهران - إيران
نقلا عن أقلام حرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق