
بعد الاطاحة بالرئيس معاوية ولد سيد احمد الطائع في أغسطس /آب عام 2005 ، كانت كل المؤشرات توحى - ظاهريا على الأقل - بأن البلاد على موعد مع لحظة تاريخية، لم يكن هناك اتفاق في تصور طبيعة هذه اللحظة، ولا كيفية إستغلالها، لكن الأكيد أن الأمور كانت تتجه الى تغير في طبيعة النظام السياسي - ولو لفترة محدودة- كما حدث بالفعل بعد ذلك.
كانت الفترة الإنتقالية التي أعقبت الإطاحة بولد الطايع، قد جاءت ببرنامج عمل طموح للغاية - على المستوى النظري على الأقل – وشرع المجلس العسكري الذي قاده العقيد اعلي ولد محمدفال في إصلاحات وتغييرات جوهرية، مست العملية السياسية وعددا من زوايا الحياة العامة، وإن تبين لاحقا أنها لم تغير آليات تسيير الشأن العام!
لكن التغيير الأهم الذي أحدثته كان سياسيا، ......فعلاوة على تنقيح الدستور، بما سمح بإدخال ترتيبات خاصة تكفل نوعا من التداول السلمي
على السلطة، وإغلاق المجال دستوريا كما قيل لنا في ذلك الوقت- وهذه هي الطريفة - في وجه تغيير السلطة المنتخبة بالقوة، ولد النص المؤسس للمعارضة الديمقراطية، ولآلية إشراكها في تسيير الشأن العام، وتقديم المشورة، وإطلاعها على خفايا القرارات الكبرى التي تهم مصير البلاد.
كما أنشأت السلطات هياكل للرقابة على المال العام، ومحاسبة المتلاعبين به – بقي عملها متذبذبا وضبابيا، وتداخلت صلاحيات بعضها مما أعاق إلى حد كبير أداءها الفعلي!!
بالإضافة إلى ذلك تم إنشاء سلطة عليا للصحافة والسمعيات البصرية، لفرض نوع من قوة التنظيم، على مجال يعاني من أمراض مزمنة، ظلت تنهكه وتجعله مجرد "كومبارس" في جوقة الحاكم، خلافا لما يتوقع منه كسلطة رابعة، تقوم الإعوجاج، وتنير الطريق نحو التغيير البناء، كمافي الديمقراطيات العريقة.
وكان أن شهدت البلاد أهم حدث في تاريخها السياسي المعاصر، فلأول مرة أجريت في البلاد انتخابات رئاسية تعددية، لم يكن أي من المرشحين فيها يدير حملته من داخل القصر الرئاسي، كما تعودنا في العقود الماضية.
كان ذلك الظاهر من المشهد، وعلينا بالظواهر، والله يتولى السرائر.
ولأول مرة كذلك لم يحصل أي من المرشحين - وكانوا نحو العشرين - على أغلبية الأصوات في الشوط الأول، مما شكل قطيعة مع عهود النسب المجنونة، التي لاتتورع عن منح مرشح السلطة، نسبة لاتنزل عن ستين بالمائة، في أسوإ الحالات ومن الشوط الأول!
وتحضيرا للشوط الثاني من الإنتخابات، جرت في البلاد مناظرة تلفزيونية، هي الأولى من نوعها – وهي الأخيرة حتى الآن– في تاريخنا السياسي والإعلامي المعاصر، تبارى فيها باحتشام، المرشحان المتأهلان للشوط الثاني، وقدما رؤيتهما لمستقبل البلاد، وانتقد بعضهما بعضا من خلال الأفكار والرؤى........ في جو لم يخل من لمحة من الديمقراطيات العريقة، لكنه لم يرق الى المستوى المنشود، لأسباب موضوعية عامة، وأخرى تحيط بالتجربة، وبواقع الإعلام العمومي، قد لا يكون هذا موضع الحديث بشأنها.
كانت تلك كلها علامات دالة على توجه محتشم نحو تغيير، قد يستغرق وقتا، وقد يتطلب تضحيات، لكنه كان آت ...... في نهاية النفق المظلم لمن يريد أن يترك له الفرصة للوصول، .....كان ذلك على الاقل وفق المؤشرات الموضوعية التي عمت البلاد في تلك الأيام......ورافق ذلك تفاؤل عارم بغد أفضل، عززته حرية غير مسبوقة في الحريات الإعلامية، وتوزع الطبقة السياسية بشكل واضح بين المرشحين، مما شكل قطيعة مع الإستقطابات والتحالفات، التي ظلت قائمة منذ بداية التسعينات الماضية، وأسس لخريطة تحالفات جديدة، اختلط فيها حابل الساحة السياسية بنابلها.
وانتهت العملية الإنتخابية بنتائج استثنائية، لأن الفارق بين المرشحين في الشوط الثاني، لم يكن يتحاوز نقطة ونصف النقطة!
ونصب الرئيس الجديد في ظل إجماع وطني - ظاهريا على الأقل - عز نظيره، تفاءل الجميع بأنه سيكون بداية لعهد تتفرغ فيه البلاد للبناء والعمل، مدعومة بالإلتفاف الكبير، الذي نجم عن أول اقتراع شفاف ونزيه في البلاد، بالنظر على الٌأقل، إلى نتائجه وإلى ما أرسته الإصلاحات التي حصلت في الفترة السابقة من ملامح أولية لثنائية السلطة، تعطي زعيم المعارضة الحق قانونيا، في الإطلاع على جوانب مهمة من النشاط الحكومي، وأخذ رأيه في صياغة المواقف والسياسات، وعدم حرمان منتسبي أحزاب المعارضة، من الوظائف العامة بسبب إنتمائهم السياسي.
كانت كل تلك الأمور جميلة ورائعة ونظرية جدا، حتى إنها لم تستطع الصمود طويلا، في وجه الممارسة اليومية لطبقة سياسية غير متعودة على تقاسم أي شيئ، وكان من بين المحيطين بالرئيس من يرى أنه هو الذي أوصله الى السلطة، ولابد له أن يقطف ثمار عمله، - وللأسف بالطريقة التي لا يراد للبلاد أن تخرج منها منذ عقود - تمكينا في مؤسسات الدولة ووظائفها السامية.
.........هكذا بكل بساطة!!
من هنا جاءت فكرة تشكيل حزب جديد، تسند قيادته للرئيس، ويعيد من خلاله كل الملتفين حوله، تجربة الحزب الجمهوري الذي ظل حاكما مع أحزاب صغيرة تحت شعار الأغلبية الرئاسية، سادا الباب أمام أي شراكة حقيقية مع المعارضة، بكل تشكيلاتها من اليمين إلى اليسار.
.......كانت تلك بداية انحراف المسار في نظر الكثيرين، فقد بدأت الريبة تحل محل الثقة بين الرئيس والمعارضة، التي باتت تخشى من إنقلاب كامل على التراث الذي خلفته المرحلة الانتقالية المنصرمة، مما يرجع الكرة إلى المربع الأول، ويعبث بأعز شيئ تحقق بعد معاوية، ألا هو الإجماع الوطني، ورصيد غير قليل من الحرية، والإنسجام في الطبقة السياسية.
وكان أن وصلت الريبة إلى القصر الرئاسي، لتشق المحيطين بالرئيس، بل وتفرق أوثق مقريبه على النحو الذي خرج للعلن، أول مرة مع نهاية النصف الأول من عام 2008
لم تترك تداعيات تلك التطورات، الوقت للإهتمام بالأمور الأخرى التي كان قد شرع فيها، وهي أكثر تأثيرا في حياة الناس، كإطلاق مشاريع التنمية وتعزيز البنية التحتية، وطي الماضي المعيق للانسجام الوطني، كتسوية الإرث الإنساني لسنوات الجمر في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، والقضاء على آثار العبودية، والمصالحة مع ماضي البلاد من خلال إعادة الإعتبار للآباء المؤسسين، وهي أمور كلها تواصلت بروح جديدة في ظل الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، الذي قدم الإعتذار بإسم المجموعة الوطنية لضحايا السنوات المرة من الزنوج، وبدأت معه عودة أفواج اللاجئين الموريتانيين الذي تركوا البلاد عام 1989، وأعاد الإعتبار للرئيس الأسبق المحتار ولد داداه، معترفا بريادته وإسهامه الكبير في مرحلة التأسيس، وأطلق مبادرة القضاء على آثار الرق.
وهذه أمور كلها كانت من الأهمية، بحيث أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز واصلها، بعد الإطاحة بالرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، وعزز بعض جوانبها، بل أنه في نظر البعض قد أحسن استغلالها، بدرجة عالية خلال الأزمة السياسية التي سبقت اتفاق داكار 2009
وفي المرحلة التي تلت ذلك حتى اليوم تقريبا.
وبالعودة الى جانب آخر من جوانب تلك الفاصلة الديمقراطية القصيرة، فان التسيير العام للدولة لم يشهد تغيرا ملموسا، وفي الحياة العامة لم يظهر أي تحسن في الصورة، رغم النوايا الحسنة والآمال العريضة، التي سبقت تلك المرحلة ورافقتها خاصة في أشهرها الأولى.
وكانت كل المبدرات النظرية الكبيرة التي أطلقتها السلطات في تلك المرحلة، قد شلت بشكل شبه كامل، بسبب الأزمة التي "أدخلت" فيها البلاد لعدة أشهر، قبل أن تصل الأمور إلى مرحلة اللاعودة، بالإطاحة بولد الشيخ عبد الله مطلع شهر أغسطس 2008، وتنتهي تلك الفاصلة الديمقراطية القصيرة، بكل آمالها وأحلامها الضائعة والمضيعة!!!
وتلك قصة ما زلنا في بدايتها، وقد يكون الحكم عليها الآن مبكرا ......علينا أن نقولها للإنصاف .
محمد ولد حمدو طهران - إيران
نقلا عن أقلام حرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق