الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على
سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم
صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى
آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وبعد
فقد جرت الأعراف الجامعية بأن ينهي الطالب دراسته ببحث في موضوع معين ليقوم من
خلاله في مادة البحث العلمي.
وبما
أن هذا الموضوع ينبغي أن يكون نابعا من رغبة الطالب وحبه لبحث ذلك الموضوع، فقد
اخترت لعنوان بحثي موضوعا من أهم المواضيع وأجملها وذلك لما له من صلة بالتاريخ
الثقافي والأميري والفقه وأصوله واللغة العربية وعلومها، وإن كنت لست أهلا لمن
يختار مثل هذا الموضوع وذلك لعدم توفر الكفاءة العلمية اللازمة لبحث مثله من
المواضيع في مثلي.
ولكن
هناك عوامل جعلتني أختاره من بين مواضيع أخرى أهمها:
1.
إعجابي
الفائق بأولئك العلماء الأفذاذ والقضاة الأكفاء الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم
ولم يذعنوا يوما لسلطان أمير ولا لنفوذ صاحب قوة مهما كان.
2.
إيماني
بأنه من واجب كل واحد منا أن يساهم في كشف ذلك التراث الضخم والكبير، والذي قل أن
توجد أسرة إلا ولديها بعض الفتاوي أو بعض النوازل تنم عن موضوع معين له صلة
بالقضاء من قريب أو من بعيد، وهنا تقع المسؤولية
على الجميع ـ طلبة علم ـ باحثين
أساتذة جامعيين ـ قضاة ـ مؤرخين ـ
المؤسسات العلمية المهتمة بالبحث العلمي {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}.
3.
أنه
إن ظلت المعوقات أمامنا دون أن تقتحم فسيظل هذا الموضوع مغطى
دائما
لوعورة مسالكه.
4.
إعجاب المجتمع بأولئك القضاة وعرفانه لهم بالجميل وخير مثال على ذلك قول المثل:
"ما ينفع فيه ولد برو" وقول المثل الآخر: "أصل ماه قضاء محنض
بابه".
5-
رغبتنا في المساهمة المتواضع بمجهودنا في إثراء المكتبة التراثية وخاصة فيما يتعلق
بموضوع القضاء وحب تقديم دارسة ولو متواضعة عن هؤلاء الفقهاء وفكرهم، وعدم نسيان
إنتاجهم الغزير والذي يعد فخرا واعتزازا للأجيال اللاحقة.
6-
الطابع العام الذي تتميز به فتاوى القضاء عن غيرها حيث تتسم بسعة علم أصحابها وقوة
فهمهم وقدرتهم الفائق على استنباط الأحكام.
أما
أشد الصعوبات التي واجهتني أثناء إعدادي هذا البحث فهي:
v
بعض
الأسفار إلى بعض ولايات الوطن للقاء بعض أفراد الأسر التي تولت القضاء في هذه
البلاد.
v
ولم
يكن قلة المراجع والمصادر عقبة أمامي بل كثرتها وتفاقهما كانت عقبة حقيقية أمامي
مما تطلب مني جهدا مضنيا في لم شتاتها وإرجاعها إلى أبوابها من الفقه وحتى في
قراءتها مما تطلب مني البحث عن نسخ أخرى لبعض الفتاوى وذلك لعدم وضوح بعض الكلمات
أو لسقوطها بل وحتى وصول التلف إلى بعض أجزائها
v
كون
هذه المادة ما زالت خاما تحتاج إلى قدم راسخة في مجال البحث والاطلاع.
v
وسع
الموضوع وصعوبة تحصيل الفتاوى وخاصة تلك الفتاوى المتعلقة بالقضاء لأن كل فتوى عند
صاحبها ويخشى عليها الضياع ولا ملامة عليه في ذلك، لأنها تراث آبائه وأجداده، مما
اضطرنا إلى الجلوس عند بعض الأفراد لنقل بعض الفتاوى.
v
قلة
الخبرة في مجال الخط وقراءته وتدوين الوثائق والمحافظة عليها.
v
قضاء
وقت كبير بين الكنانيش والفتاوي المختلفة لكشف بعض الأقضية وتمييزها عن الفتاوي.
v
قلة
الخبرة في مجال، النوازل، وتأصيلها ونسبتها إلى أهلها ورد تلك النوازل إلى أبوابها
من الفقه وفروعها، مما يتطلب من الباحث سعة اطلاع فائقة ومعلومات كثيرة في الفقه
والأصول والأدب واللغة والتاريخ وحتى الجغرافيا.
ثم
بعد كل ما مضى من ذكرنا لأهم العوامل التي دفعتنا لاختيار هذا الموضوع وبعض
المعوقات التي تعترض الباحث عادة سنثير مجموعة من الاستشكالات أهمها ما ذا نعني
بالقضاء وما هي أنواعه وما هي مقاصد الشريعة من القضاء؟ وكيف ارتبط القضاء بالمذهب
المالكي في هذه البلاد؟ وكيف يمكن تأطير الموضوع تأطيرا عاما وجغرافيا لتنزيل هذا
البحث في ذلك الإطار، وكيف يولى القضاة في هذه البلاد؟ وهل صحت أقضيتهم مع غياب
سلطة مركزية تنفذ أحكامهم وهل تم اعتبار
الفقهاء لهم قضاة وهل تركوا لنا كتبا يمكن اعتمادها مراجع في القضاء عمليا؟ وهل ظل
القضاة الموريتانيون مقلدين في القضاء غيرهم أم وجدت لديهم مظاهر تجديد في القضاء
الموريتاني على أن نقوم بأهم الاستنتاجات من البحث ونسوغها على شكل توصيات إن شاء
الله آملين من الله العلي القدير أن يوفقنا ويوفق جميع المسلمين.
وقد
اتبعت في إنجاز هذا البحث الخطة التالية:
v
إطار
عام وجغرافي: يتحدث عما كانت عليه البلاد
من فوضوية وغياب للسلطة المركزية في تلك الفترة وأهم تسمياتها وحدودها..
v
الفصل
الأول: وقد خصصته لعلاقة القضاء بالمذهب المالكي في هذه البلاد وكيف ساد المذهب
المالكي في هذه الربوع وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث:
v
الفصل الثاني: ويتناول هذا
الفصل شخصية محنض بابه ولد اعبيد القضائية والعلمية بوصفه مدافعا عن المذهب
المالكي، ونماذج من نوازل القضاء والإفتاء عنده، ويضم ثلاثة مباحث:
v
المبحث
الأول: منحض بابه ولد أعبيد الفقيه
v
المبحث
الثاني: مخالفة محنض بابه ولد أعبيبد لمعاصريه في نوازل فقهية وقضائية رعيا للعرف.
v
المبحث
الثالث: نماذج من أقضية محنض بابه
v
الفصل
الثالث: وقد عنونته ب: محمذن فال بن متالي ومراعاة الخلاف وذلك من خلال قراءات
متعددة في فتاوى وتحكيمات محمذن فال بن متالي وقد قسمته إلى ثلاثة مباحث:
v
المبحث
الأول: محمذن فال بن متالي الفقيه
v
المبحث
الثاني: التحكيم عند ابن متالي وذلك من خلال نوازل معينة
المبحث
الثالث: القضاة الموريتانيون بين المراجعات الفقيهة والاعتبارات القضائية.
v
الخاتمة:
وقد خلصت فيها لأهم مواقف العلماء وأقوالهم في القضاء في هذه البلاد.
إن
دراسة موضوع كهذا الموضوع والذي هو (القضاء عند الشناقطة وندرة خروجهم على المذهب
المالكي فيه. أقضية محنض باب ولد أعبيد ومراجعات ولد متالي التندغي له كأمثلة)
يجعل الطالب يتكلف الكثير من المشاق والصعاب لكي يناقش ويقدم هذا الموضوع بمختلف
جوانبه دون أن يغفل منه جانبا لأنه من المواضيع التي تمس كل جوانب العلوم وتجعل
الطالب يتيه كثيرا وينزلق مرات عدة لأن الموضوع شيق وجيد وسنحاول أن نعطي حسب وجهة
نظرنا تأطيرا عاما كمدخل لهذا الموضوع على أن نشفعه بإطار جغرافي وتاريخي وذلك كله
من أجل زيادة معلومات الباحث لأن هدفنا هو إعطاء أكبر كم يمكننا أن نصل إليه من
المعلومات عن هذا الموضوع.
وإذا
كانت الفكرة الشائعة هي أن العلم إنتاج حضاري مرتبط بالتقري والسكن في مكان واحد
فإن الشناقطة خرقوا هذه القاعدة فأنتجوا حضارة أعجبت كل من لقي واحدا منهم سواء في
المغرب أو المشرق العربيين وخير شاهد على ذلك محمد محمود ولد إتلاميد
ومحمد حبيب الله ولد ما يابا
والشيخ محمد الأمين ولد محمد المختار الشنقيطي.
عندما
جاءوا إلى المشرق ظلوا أساتذة جامعيين ومفتين ومشائخ مدرسين.
ولا
بد من معرفة حدود وتسمية هذه البلاد التي نود أن ندرس القضاء فيها أو على الأقل
نماذج من القضاء فيها فمثلا الشق الأخير من موضوعنا وهو جملة (أقضية محنض باب ولد
أعبيد الديماني ومراجعات محمد فال بن متالي التندغي له كأمثلة) يخصص إلى حد ما هذا
الموضوع بمنقطة "القبلة" أو "اترارزة" عند التقسيم الجغرافي
الحديث ولكن نحن ندرس القضاء في بلاد شنقيط من خلال نماذج من الآثار الفقهية لهذين
العالمين الجليلين، لأن هذه البلاد يحكمها دين واحد ويسود فيها مذهب فقهي واحد ووضعية
سياسية وعلمية واحدة إلى حد ما.
ولا
بد قبل أن ندخل الحديث عن القضاء أن نعطي الحدود الجغرافية لهذه البلاد فموريتانيا
اليوم ليست هي موريتانيا أمس.
فهناك
أسماء كثيرة أطلقت على هذه البلاد التي تعرف الآن بالجمهورية الإسلامية
الموريتانية. ذلك أن كل واحد من هذه الأسماء له دلالة تاريخية خاصة، إما أن يعبر
عن حقبة زمنية تاريخية متميزة أو زعامة من
الزعامات التي سادت البلاد فترة ما، أو وصف جامع مانع ذي دلالة سياسية
واجتماعية وفقهية.
وقد
تتداخل وتتقاطع هذه التسميات، وقد تختلف اختلافا يسيرا إلا أنها تجمع على أن حدود
البلاد جنوبا نهر صنهاجة "نهر السينغال" وشمالا الساقية الحمراء وهي
داخلة فيها وشرقا "أزواد" وهو داخل فيها وغربا بحر بني الزناقية
"المحيط الأطلسي" وبالرغم من أنه كانت هناك دول تحكم بعض مناطق هذه
البلاد مثل مملكة غانا التي حكمت بعض مناطق البلاد كأوكار والحوض قبل نهاية القرن
الثالث عشر الميلادي وكانت تدعى مملكة أوكار وعاصمتها الأولى أودغست ومملكة مالي
التي بسطت نفوذها على مناطق كثيرة من البلاد حتى القرن السادس عشر الميلادي
وبالرغم من ذلك فإن التسميات التي اشتهرت بها هذه البلاد عند المؤلفين والرحالين
هي: "صحراء الملثمين"، "بلاد التكرور"، "بلاد
صنهاجة"، "بلاد شنقيط" "بلاد لمغافرة" "الأرض
السائبة" "المنكب البرزخي" "بلاد على فترة من الأحكام"
"البلاد المغربية الصحراوية البيضانية" "تراب البيظان" ولاحقا
"موريتانيا" وخاصة بعد
الاستقلال.
تعددت
الأسماء والمسمى يكاد يكون واحدا وإنما اختلفت التسميات باختلاف المرحلة الزمنية
التاريخية وبحسب المنظور الذي ينظر إلى المسمى منه فتسميتها صحراء الملثمين وجيهة
لان سكان البلاد خلال القرون الإسلامية الأولى صنهاجيون من قبائل لمتونه وكدالة
ومسوفة وكان شعارهم اللثام وقد مدحهم به الشاعر أبو
محمد بن حامد الكاتب إذ قال:
قوم
لهم شرف العلا من حمير
لما حووا إدراك كل فضيلة
|
|
وإذا
انتموا صنهاجة فهم هم
غلب الحياء عليهم فتلثموا
|
أما
تسميتها ببلاد التكرور فإن كلمة التكرور كانت تطلق على مدينة تقع على ضفة نهر السينغال وكانت عاصمة دولة
إسلامية في السودان الغربي تحالفت مع المرابطين في الصحراء في عهد يحي بن عمر
سنة 448هـ، وقد أطلق هذه التسمية على البلاد صاحب فتح الشكور.
وذكرها
أحماه الله بن محمد الملقب أنباله
في كتابه، واعتمدها بعد ذلك باب
ولد الشيخ سيديا.
وأما
تسميتها ببلاد شنيقط فهو اسم اشتق لها من اسم مدينة شنقيط التي أنشأت سنة ستين
وستمائة هجرية وكانت عاصمة العلم ومنطلق الحجيج آنذاك وكان علماء البلاد إذا خرجوا
عنها يعرفون أنفسهم بشنقيط لأنها أقرب المراكز الحضارية المعروفة آنذاك وأشهرها
بالبلاد وعرفت البلاد بهذا الاسم في العهود الأخيرة أي ابتداء من القرن الثاني عشر
الهجري وعرف أصحابها في بلاد المشرق بالشناقطة وقد أطلق هذا الاسم على البلاد كثير
من المتأخرين والمعاصرين من المؤلفين مثل سيد عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي
وأحمد بن الأمين والمختار بن حامد
وأحمد ولد الحسن والخليل النحوي ومحمد
المختار ولد اباه و يحي ولد البراء وغيرهم.
أما
تسميتها ببلاد المغافرة وهي مجموعة قبلية من بني حسان وفدت إلى بلاد شنقيط من
القرن السابع إلى التاسع الهجري لأن هؤلاء سيطروا على هذه البلاد وشكلوا فيها
إمارات ومشيخات قبلية في القبلة وآدرار والحوض دامت بعض هذه الإمارات حتى الاحتلال
الأجنبي واندثر بعضها قبله.
وأما
تسميتها بتراب البيظان أو البلاد المغربية الصحراوية والبيضانية فهي أسماء أطلقت
قديما وحديثا أطلقها صاحب كتاب الروض المعطار وأطلقه الكتاب والرحالة الفرنسيون في
عهد الاحتلال تمييزا لها عن أرض السودان المحاذية للنهر جنوبا كما سماها باب ولد
الشيخ سيديا البلاد المغربية الصحراوية
البيضانية وهي تسمية تحاول الجمع
والمنع فهي مغربية لأنها تشكل جزء من المغرب الإسلامي وتمييزا لها عن حوض البحر
المتوسط وبيضانية تمييزا لها عن بلاد البرابرة في الشمال والسودان في الجنوب
والجنوب الشرقي وكثيرا ما أطلق على هذه البلاد بلاد المغرب والمغرب الأقصى قال
الشيخ سيد محمد ولد الشيخ سيديا:
ألفيتم
الدين بقطر المغرب
|
|
طارت
به في الجو عنقا مغرب
|
هذا
وقد شاع بأقصى المغرب
|
|
هجر
الوضوء لا لخوف العطب
|
وأما
تسميتها بالأرض السائبة أو المنكب البرزخي أو بلاد على فترة من الأحكام وهي ألفاظ
متقاربة المعنى تأدي معنى واحدا بتعبير مختلف لأن هذه التسمية تنطبق على مرحلة
زمنية تميزت فيها هذه البلاد بغياب سلطة مركزية وهي الفترة التي أعقبت نهاية دولة
المرابطين وامتدت حتى تكوين الدولة الحديثة – الاستقلال 1960م- باستثناء بعض
الفترات الخاطفة ولعل هذه التسميات ذات دلالة فقهية أطلقها الفقهاء كالشيخ محمد
المامي.
وسيد عبد الله بن الحاج إبراهيم وباب ولد الشيخ سيديا وغيرهم على هذه البلاد
تعبيرا عن شعورهم بفراغ سياسي كبير يترتب عليه تعطل في كثير من فقه الأحكام
السلطانية بسبب غياب الإمام أو السلطان،
وقد يكون ذلك سبب تعلق بعضهم بسلطان المغرب وإعلان البيعة له لإحساسهم بشغور هذا
المنصب في بلادهم واعتقادهم بضرورة نصب الإمام الذي هو جزء من الدين،
ذلك أن الفقه الإسلامي يلزم الأمة بعقد البيعة لإمام يقيم العدل ويقوم بأمر الله
ويجاهد في سبيل الله.
فهذا
عبد الله بن ياسين
شيخ المرابطين ومعلمهم الأول يقول للمصامدة
بعد أن سألهم عن ربهم ونبيهم عليه الصلاة والسلام فأجابوا بأن ربهم الله وأن نبيهم
محمد صلى الله عليه وسلم "قال مالكم بدلتم وغيرتم هلا قدمتم عليكم إماما يحكم
بينكم بشريعة الإسلام وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى أن شعيرة قامة الإمامة
الكبرى حاضرة في ذهن معلم المرابطين قبل أي شعيرة أخرى كالصلاة والزكاة
والحج...إلخ".
وكانت
حركة ناصر الدين، محاولة لأقامة سلطة مركزية في البلاد أو جزء منها على الأقل
وقد عبر عن هذا الإحساس كثيرون منهم الشيخ محمد المامي إذ يقول: "في توليته
وقلتم
لا جهاد بلا إمام
|
|
نبايعه
فهلا تنصبونا
|
وباب
أحمد بن محمد امبارك اللمتوني
الذي يبكي على الدولة الصنهاجية:
ولم
تنتبه من بعد لمتون دولة
|
|
ولم
يك في بنيانها بعد ظل
|
ولعل
هذه التسميات التي تشير إلى نوع من الفوضى في النظام السياسي لصيقة بموضوع القضاء
في بلاد شنقيط.
إذ
القضاء إحدى الولايات العامة التي تفتقر إلى وجود ولاية عظمى تعين القضاة وتحدد
اختصاصاتهم وتتولى تنفيذ أحكامهم بالقوة إذا اقتضى الأمر ذلك ففي غياب السلطلة
المركزية لا يمكن لهذه الأحكام أن تنفذ بالجبر لفقد السلطة الكفيلة بتنفيذها.
وسترى
عند نقاشنا للأحكام الصادرة عن هذه السلطة القضائية. كيف كانوا يحكمون في ظل هذه
الفوضى السياسية ومدى ما لأحكامهم من قوة الشيء المقضي به. كما أنه لا بد هنا أن
نتساهل في تحديد السلطة المركزية فنعتبر أن الإمارة أو جماعة القبيلة أو القبائل
المجتمعة المتحالفة تقوم مقام السلطان في تدبير شؤون الدين والدنيا ومن ذلك نصب
القضاة ووضع المواثيق التي تنظم الأفراد المشمولين في هذه الدائرة.
ولن
نكون بدعا في ذلك إذ هو رأي فقهاء البلاد يدفعهم إلى ذلك عاملان.
أحدهما:
ما ذكره ابن هلال. في الدر النثير،
في باب الغصب من أن جماعة العدول تنوب في البلاد السائبة عن السلطان وحيث يتعذر
الإنهاء إلى السلطان أي تقوم مقامه في كل حكم حتى في الحدود والقصاص وكذا إن كان
فيه سلطان غير عدل أو يضيع الحدود.
والثاني:
ضرورة ملء الفراغ السياسي الناجم عن عدم سلطة مركزية لها الأمر والنهي وفي نوازل
العلوي سيد عبد الله بن الفاغ سيد أحمد أن تقليد القضاة يكون بنصب الإمام أو جماعة
المسلمين في بلد لا سلطان فيه أو يتعذر الوصول إليه ولهذا كانت كل قبيلة تعين
قاضيا أو أكثر لحل خلافاتها وخصوماتها والدفاع عن حقوقها هذا عن موريتانيا الأمس
جغرافيا وسياسيا وعن تسمياتها في تلك الفترات الماضية.
أما
موريتانيا اليوم فتكاد تدل دلالة مطابقة على مورتيانيا التي يتحدث عنها التاريخ مع
اختلاف بينهما في بعض أجزاء البلاد التي كانت من الناحية السياسية والثقافية جزءا
من موريتانيا أو من صحراء الملثمين إلا أنها في النظام الدولي الحالي جزء من دول
أخرى وذلك مثل أزواد وتمبكتو والصحراء الغربية. وموريتانيا اليوم محصورة بين
دائرتي عرض 14.43 و 27.20 شمالا وبين خطي طول 4.40 و17.04 غربا بمساحة قدرها
1030700كلم وحدودها الطبيعية والسياسية مضبوطة في كتب الجغرافيا هذا ما حاولنا
التأطير به لهذا البحث من الناحية الجغرافية.
وسنتحدث
في الفصل القادم عن علاقة القضاء بالمذهب المالكي في هذه البلاد ممهدين لذلك
بتعريف القضاء وشروط القاضي.
لا
بد لأي شخص يتولى أي عمل مهما كان هذا العمل جليلا أو حقيرا من صفات تحدد مدى
قدرته على القيام بتلك المهمة المنوطة به وإذا كان القضاء هو فصل القول بالحق بين
الناس في دمائهم وأموالهم بحكم الله فما هو تعريف القضاء وما هي شروط القاضي وكيف
يولى وسنقسم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب:
القضاء
لغة يطلق على عدة معان منها الأمر كقوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا
إياه...ْ} أي أمر ربك. ومنها
التقدير كقوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين
ولتعلون علوا كبيرا}
أي قدرنا ومنها الاقتطاع والتمام كما في قولك: "قضى فلان دينه" أي قطع مَالِ
غرِيمه عليه بالأداء، ومنه قوله تعالى [إذا قضى أمرا]
أي أحكمه وأنفذه، ومنه {فإذا قضيتم مناسككم}أي
أتممتموها وتأتي كلمة القضاء بمعنى إحكام الشيء والفراغ منه ومنه قوله تعالى
{فقضاهن سبع سموات في يومين}
وتأتي بمعنى المضي ومنه قوله تعالى{ثم اقضوا إلي ولا تنظرون}
أي أنه في اللغة يدور بين الحكم وأصله القطع والفصل وقضاء الشيء إحكامه وإمضاءه
والفراغ منه والقضاء الأمر والحتم، والقضاء الموت قال تعالى: {فوكزه موسى فقضى
عليه}
أي بالموت فالقضاء ومشتقاته ترد في اللغة على وجوه عدة مرجعها جميعا إلى تمام
الشيء وانقضائه ومنه القضاء الفصل في الحكم.
وعمل
الناس بغير المذهب
وشرعي الوجه التمس لما جرى
على خلاف ووفاق المذهب
معين أو راجح عنه أبى
|
|
لحاجة
جوزه كل أبي
من عادة تقادمت بين الورى
إذ ارتباط عمل بمذهب
لزومه لنا الهداة النجبا
|
إذا
تأملت مكتوبي بإنصافي
هو المصيب لصوب الفهم عضده
رووه عن مالك نصا ووافقه
دع عنك دعوى تقاييد تقدمها
والأصل في القيد نفي والمفيد له
وإن تفهت في القاموس فانقرضوا
أما الدروج ففيه المعنيان كما
|
|
ألفيت
فيه زلالا عذبه صاف
نقل الشيوخ بنص واضح شافي
نص الإمام بن عبد البر في الكاف
شيوخنا بدليل وجهه خاف
لم نلفه بعد بحث شامل واف
ماتوا وليس لنسل موتهم ناف
ذا في الصحاح بإيضاح له شاف
|
مراجعنا
في راجع الوقت قد غفل
رمى ما حكي المواق من قول مالك
|
|
وساق
نصوصا لا تساعده همل
فأشوى محل القول فاستنوق الجمل
|
كيف
النزاع وجاء النص يا صاح
أن ليس يدخل في الأحباس إن رجعت
والأصل في الفظ إطلاق فنصحبه
وقد بحثنا عن التقييد مبحثه
|
|
كيفعن
الإمام بإطلاق وإيضاح
بنوا البنات وذا إطلاقه ضاح
حتى يبين تقييد بإفصاح
فلم نجده وذا يكفيك ياصاح|
|
وضح
الحق يا لبيب فسلم
ليس من أخطأ الصواب بمخط
حسنات الرجوع تذهب عنه
إن المخطأ المسيء من إذا ما
|
|
إن
تسليم الحق فيه سلامه
إن يؤب لا ولا عليه ملامه
سيئات الخطأ وتنف الملامه
وضح الحق لج يحمي كلامه
|
نجائب
إن ندت أو بدى مشكل
فلسنا بحمد الله نجحد فضهلم
فجدهم أستاذ تاشمش كلهم
|
|
من
العلم شلتها فتتركها صرعا
وجاحد ضاح الحق يصرعه صرعا
قد ارتضعوا من علمه الخلف والضرعا
|
ما
في الجدال من التكذيب مغتفر
طود المودة منا لا يزعزعه
|
|
شأن
المجادل تكذيب وتأنيب
من عاصف القول تأنيب وتكذيب
|
ثم
يتحدث عن قضاء محنض بابه في أمر قتل ولد السالم ولد الفاروق مكيفا الجناية على
أنها تمت بتواطئ وتمالئ على القتل إذ يقول: "ويتدرب الكل في آلات القتل
والرمي بها ولا يضعون آلة القتل عن عواتقهم واستمرت كلمتهم متفقة على ذلك إلا أن
غزوا في وقت واحد بأيدي الكل آلات يعلم أنها لم تتخذ إلا للإصماء لا تمييز لصاحب
ثأر ذي الجد في إدراكه عن غيره وساروا مجتمعين إلى أن زحفوا بغيا على ذلك الحي
متخذين المال وراءهم قائلين إنهم ملوا أخذه ثم حملوا حملة الرجل فأصابوا من أصابوا
وأخطئوا من أخطئوا
ويحتج محمذن فال ابن متالي لرأية بقوله تعالى: {ليعلم الذين نافقوا وقيل لهم
تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا}
بأن معنى الدفع عن القوم بتكثير السواد.
ويورد
ما ذكره البناني من استظهار قتل جميع الجماعة الباغية بقتل واحد من الدافعة وأنهم
متمالؤون.
ورد
محنض بأنه على ابن متالي بأن استظهار البناني يدل على أنه لم يجد فيه نصار وأن ابن
مرزوقوالحطاب فيهما ما يفيد
مخالفته.
ثم
كتب إليه ابن متالي التسليم لما يحكم به القاضي من القسامة من على واحد
مخاطبا إياه إذ يقول "لكن إذا كان
الحكم عندك بخلاف ذلك وأنه لا بد من القسامة على واحد فأعلم أنا مقلدوك ومسلمون
لما تحكم به، أحكم بما أراك الله وحث محمد الحبيب على تنفيذ حكم القاضي محنض بابه.
وحسب
الوثائق المتاحة من فتاوي ومراجعات حول النازلة التندغية وحسب محمدن سيد محمد ولد
حمينه.ينص بالحرف الواحد
على رجوع كل من الشيخين إلى رأي الآخر في أحد مظاهر تطورات هذا النزاع فيقول:
"ويذكر هنا أن محنض بابه رجع إلى رأي ابن متالي في قضية محمذن ولد سيد أحمد
فحكم بالدية ورجع ابن متالي إلى حكم محنض بابه في أمر القسامة".
أما
لولي بن اليعقوبي 1277هـ فلم يرض عن الحكم فتبادل مع محنض بابه من جهة ومع ابن
متالي من جهة أخرى رسائل في الموضوع.
ويذكر من أدبيات هذا النزاع أن محنض بابه عندما
جلس في قضية تندغة عامل الشيخ ابن متالي وهو من هو معاملة خصمه فلم يقم إليه عند
دخوله المجلس كما كانت عادته معه في السابق، وأن محمذن ولد سيد أحمد الذي حكم عليه
القاضي محنض بابه بالقصاص رثى محنض بابه بعد وفاته وسنأتي بالنصوص التي راجع بها
ابن متالي محنض بابه في الفصل الثالث إن شاء الله الخاص بمحمذن فال بن متالي.
وبما
أن القضاء في هذه البلاد استمد من القضاء الإسلامي والمرابطي صفة المجانية إلى حد
ما ولو نسبيا مما أدى إلى استقلال السلطة
القضائية عن السلطة السياسية وعدم تأتي صلاحيات الأولى من الثانية فإن ذلك قد منح
القضاة الحرية التامة في ممارسة وظائفهم الشرعية.
إذا
كانت النازلة الغلامية في وقتها شكلت مجالا لاستعراض العضلات الفكرية وإبراز
القدرات الذهنية لدى علماء ذلك الوقت ممن تباروا في حلها.
وتمثل
نازلة استلحاق محمدن ولد الكوري لابن أمته نموذجا بارزا يحدد مدى قدرات جيل ذلك
الوقت العلمية وهذه النازلة هي عبارة عن استلحاق محمذن ولد الكوري لابن أمته وهي
النازلة المعروفة في الوسط الديماني بالنازلة الغلامية التي رفعت إلى أحمد ولد
العاقل فحكم فيها بلحوق الغلام لابن الكوري بعد وفاته وإليك نص حكم أحمد ولد
العاقل حسب الوثائق المتاحة: "الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وبعد فقد
ترافع إلي محمد ولد أحمد ولد حرمه وأبوبكر ولد سيدي ولد حرمه في شأن غلام ادعى
الأول أن محمذن ولد الكوري ولد حرمه رحمه الله استلحقه وأنكر الثاني فألزمت المدعي
البينة فأتى بشاهدي عدل على الاستفراش وهما: محمد ولد أحمد ولد عبد الله وزين ولد
الغالي وآخرين على الاستلحاق وهما المصطف ولد أعبيد بن محمود لله والزيغم ولد عاش
قرنا وعدول كثيرون شهدوا على القطع بأنه ولده لحصول العلم لهم بالقرائن بذلك،
وبسبب القرائن البينة كتسميته باسم جده وحمرة لونه والعق عنه بثلاث شياه وغير ذلك،
ومنهم أي العدول محمد القرشي ولد ألمين بن أحمد بن يحي ومحمد فال بن والد ومحمد كم
ولد الفاضل وعبد الله جنك.
فأعذرت للمشهود عليه في الشهود فلم يبد مطعنا فحكمت بلحوقه بعد مشورة العلماء من
أهل البدل كالمختار ولد محمذن ولد المختار ومحنض بابه ولد أعبيد وغير.
وهذا
نموذح للأحكام مكتمل الشروط ذكر فيه أحمد بن العاقل رحمه الله، الحكم والمترافعين،
وموضوع النزاع، والشهود، وسماهم، وأعذر للمشهود عليه، وشاور العلماء، فحكم. كما هو
معروف عند الفقهاء.
وقد عارضت ذلك الحكم جماعة من أبناء عمومة الرجل
منهم بكي ولد سيدي ولد حرمه في مرحلة أولى ووافقه جماعة من علماء المنطقة منهم
محمذن فال بن متالي وغيرهم، ومحنض بابه في مرحلة ثانية.
أما
محنض بابه الذي ذكر أحمد بن العاقل أنه استشاره فإن له موقفا آخر من هذا النزاع
فهو يرى عدم اللحوق ويفصل ذلك في مكتوب يبعث به للشيخ سيدي بن المختار الهيبه
ليطلعه فيها على رقية المختار وهو الغلام.
الذي دار حوله النزاع وكان المختار هذا ينوي
التزوج في قبيلة الشيخ سيديا أو تزوج بالفعل كما يفهم من رسالة الشيخ سيدي
الجوابية وهذا نص رسالة محنض بابه إلى الشيخ سيدي باختصار وتصرف يسير:"فبعد
المقدمة المعهودة وذكر الله والإشادة بالمبعوث إليه والتعبير عن التعلق والشوق
والإجلال والتعظيم والإشادة بفضله يقول محنض بابه مخاطبا الشيخ سيديا موجبه الاستغاثة إلى الله ثم إليكم في ملمة ألمت وطامة طمت وهي أن
محمذن ولد الكوري ولد حرمه ترك ابنة وعبيدا منهم أمة متزوجة لها ولد لم ينفه أبوه
فلما لم يترك سيدها ولدا ادعت أم السيد وأقاربها أن ذلك الولد من محمذن ولد الكوري
واحتجوا بحجج منها شهادة رجل أنه عاينه يستمتع بأمته ومنها قرائن على أنه ولده
فرفع ذلك إلى الشيخ أحمد ولد العاقل،
ولم يقبل تلك الحجج لضعفها عنده واحتج بقول خليل: "وإنما يستلحق الأب مجهول
النسب" وأمر أولاد حرمه بقسمة التركة وأبقاه على الرق وذلك حكم عند ابن
القاسم لايجوز نقضه فلما قسموا المال وقع الغلام في نصيب بنت محمذن ولد الكوري
وبقي كذلك نحو ثلاثة عشرة سنة ثم قام سيد أحمد ولد حبيب الله ولفق حججا أيضا فأصغى
الشيخ أحمد ولد العاقل لحججه ومنها شهادة من لم يرفع في تلك السنين ويرى أم الولد
تستخدم وفي حق الله تجب المبادرة بالإمكان.
وقد
نصوا على أن من لم يبادر يقدح ذلك في شهادته ولا يعذر بالجهل كما في التوضيح عند
ذكر سكوت البكر ونظم الزقاق للقواعد ولما أصغى الشيخ لتلك الحجج قال إن الغلام
لمحمذن ولد الكوري بل حكم بذلك فجعل أهل حرم ومن نصرهم ذلك حجة يدفعون بها من يطلب
حقه من تركة بنت محمذن ولد الكوري وذلك إن ثبت منقوض لمخالفته نص قوله صلى الله
عليه وسلم: (الولد للفراش...)
أي لصاحب الفراش ولا خفاء أن الزوجة فراش لزوجها إلى أن يقول والحكم بلحوق هذا
الغلام لمحمذن ولد الكوري نقضه أحمدو فال بن محمذن فال الموسوي.
بسبب مخالفته للنص السابق ونقضه محمذن فال بن متالي وسلم له أحمد محمود التندغي
وسيد أحمد ولد محنض ولد خاديل
ومحمذن ولد الكوري لو ثبت أنه وطئها بعد استبرائها من زوجها وولدت لستة أشهر فأكثر
من وطء السيد فإذا علم هذا فابنت محمذن ولد الكوري التي هي سيدة الغلام تركت زوجا
وأما وبنيها فورثت الأم وبنوها نصف الغلام فإذا كان لهم حق في فسخ نكاحه فقد فسخوه
ومعلوم أن مالك بعض العبد له رد نكاحه انتهى ثم جاء جواب الشيخ سيدي
باسم جماعة أهل محنض نلله من أولاد لمرابط مكه ابن ابيري أخوال محمذن ولد الكوري
في رسالة مطولة مليئة بالنصح والإرشاد لإصلاح ذات البين ثم يعود بعد ذلك إلى حكم
أحمد ولد العاقل فيقول ثم لتعلموا أن حكم القاضي العالم العادل المجمع في عصره على
جلالته وتقدمه في خطة القضاء والفصل بين الخصماء لسنا ممن يتعرض عليه ولا يعترض في
شيء من الأشياء عليه لكوننا لسنا من رجال ذلك الشام ولامن فرسان ذلك الميدان مع
العلم أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في منتقصيهم معلومة وأما نكاح بنت عبد
الله ولد حيبلله ولد العالم
فالأمر فيه عند أهلها كالعدم في جنب استرقاق بعلها بل يقال في جدار ذلك لدى
التخريب ما يقال في مثقال الذيب
انتهى.
قد
اشتهر هذا النزاع بنزاع الغلام أو المسألة الغلامية ويذكر أنه بمناسبة هذا النزاع
قال محنض بابه إن حكم أحمد ولد العاقل منتقض لعدم صحة قضاء الأعمى وكان الشيخ أحمد
بن العاقل قد كف بصره آنذاك فرد عليه أحمد بن العاقل بأن ذلك مقيد بوجود المثل
ملمحا إلى أن الشيخ محنض بابه لم يبلغ مرتبته بعد،
مع العلم بأن سلامة البصر والسمع واللسان من شروط التمادي والاستمرار لا من شروط
الصحة كما مر معنا سابقا بمعنى أن القاضي إذا عمي يجب عزله عن القضاء ولكن أحكامه
تنفذ لأنها صحيحة عند المالكية وأما عند الأئمة الباقين فإنها شروط صحة عندهم
لازمة لصحة أحكام القاضي وحكي هذا القول
عند بعض المالكيةوهذه
واحدة من تلك المسائل التي خرج فيها قضاة
وعلماء هذه البلاد على مشهور المذهب المالكي وبعد هاتين النازلتين نأتي بتصرف
قضائي آخر لمحنض بابه.
قال
محنض باب: "الحمد لله وما توفيقي إلا بالله والصلاة والسلام على رسوله وعلى
آله وأصحابه، وبعد فإن من القواعد التي بني عليها الفقه قولهم الضرر يزال وهو
مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)
اختلف في قوله لا ضرار هل هو تأكيد لما قبله في النهي عن الإضرار ومعنى الأول لا
تضر من لم يضرك ومعنى الثاني لا تضر من ضرك فعلى هذا كل ما فيه إضرار أو ضرر أو
ضرار منهي عنه عقدا كان أو غيره والعقد المنهي عنه فاسد يفسخ قال الشيخ خليل
"وفسخ منهي عنه إلا بدليل" وما اتفق عليه الشافعية والمالكية
أن النهي يقتضي الفساد.
ولا
يخفى أن شراء الحسن لربع انتمركاي
من المرداني إنما قصد به إضرار آل الكوري ولد قطرب لما بينهم، من العداوة فما حكم
به سيد أحمد ولد م محم فسخ ذلك الشراء صواب.
وكذا
حكمه بأن المرداني يبقى له ما أخذ من الحسن ويدفع آل الغلاوي للحسن قيمة ما دفع
المرداني لأن ما أخذ المرداني قد اختاره عن نصيبه من انتمركاي فلا ضرر عليه في ذلك
والحسن ليس له إلا قيمة ما دفع ولا ضرر عليه في أخذه من غير المرداني بل أرفق أخذه
من آل الغلاوي لأن تمكنه منهم أشد من تمكنه من المرداني وكذا ذكر الخرشي وعبد
الباقي. في باب الشفعة عند
قول خليل "وكتابة ودين" أن الدين إن بيع لعدو فالمدين أحق به لدفع الضرر
ومما يشهد لما حكم به سيد أحمد من بقاء ما أخذه المردان له ودفع قيمته للحسن مسألة
ورثة المشتري بالخيار إذا رد بعضهم وأجاز بعض فإن الاستحسان أخذ المجيز جميع
السلعة ويدفع جميع الثمن للبائع ليرتفع عن البائع ضرر التبعيض ولا ضرر على أحد في
ذلك لأنه بقي لمن رد، ماله وأخذ البائع مثل الثمن الذي باع به.
فدعوى
أن ما فعله سيد أحمد لا نظير له في الفقه قصور نظر وكذا دعوى أن فسخ العقد للعدواة
خاص ببيع الدين لعدو، فإنه يفسخ كل عقد فيه ضرر كتفرق أم من ولد لم يثغر وتوكيل
عدو في خصومة وبيع غير الدين للعدو كبيع الدين له في الإضرار، والعقد لا يزال ضرره
إلا بفسخه. فما حكم به سيد أحمد في شأن انتمركاي هو الصواب فلا يجوز له ولا لغيره
نقضه هو الصواب ومن أفتى للحسن بفساد ذلك الحكم فقد أغراه على إضرار سيد أحمد
وإضرار أهل الغلاوي والله حسيبه وتجب التوبة من ذلك والرجوع وبالله التوفيق لا رب
غيره وهو حسبي ونعم الوكيل.
محنض
بابه
ما
كتب من أن حكم سيد أحمد على الحسن صواب: صواب وأما تمكين الخصم من مرافعة قاضيه
فيه خرم قاعدة تأمين القضاة لا سبيل إليه شرعا.
محمد
محمود ولد حبيب الله بن القاضي
نقلا عن نسخة محمدن ولد حامدن
في
فتوى مخالفة لجمهور الفتاوى الشنقيطية حول مستغرقي الذمة وكيفية القضاء لهم يقول
محنض بابه: لما سئل ذات يوم إذا أتاك معصوم مال ومستغرق ذمة متقاضيين أتقضي
للمعصوم ولو بغير حق لما كان في الكتب من أن من قضى للمستغرق على المعصوم غرم
للمعصوم ذلك المال يوم القيامة لأن المستغرق لا يملك شيئا والمعصوم أولى بذلك
المال منه أم كيف تصنع؟ فقال ما في الكتب صواب ولكن إذا قضيت للمعصوم بغير الحق
وعلماء الدنيا كثيرون وربما أخبر المستغرق بعضهم بحقيقة الأمر فيظهر على الخيانة
ويكون في ذلك انخفاض لشأني وعدم نفوذ كلمتي فلا يترافع إلي اثنان بعد فيكون ذلك
سبب لاتساع الخرق وجلبا لضرر أعظم من ضرر قول الحق بينهما فو الله لا أقضي بغير
الحق أبدا ويبدو الأمر لدى محنض بابه مما تقتضيه ضرورة الحفاظ على سمعة القاضي
وصيانة شرف المهنة وإن كان خالف سلفه اليدالي كما هو معلوم في نص رسالة اللفعةونلفت
الانتباه في الأخير إلى أن أحكام هؤلاء القضاة بوجه عام نافذة بنفسها ما لم يطعن
أحد العلماء بصحتها ويطالب بنقضها فيستمر الجدل بشأنها حتى توجد كملة سواء فيها
وخير مثال على ذلك النازلة الغلامية التي لم تحسم إلا بعد موت أحمد بن العاقل
وتولي محنض بابه منصب قاضي الإمارة، فصار برتبة أحمد السابقة فحكم فيها برأيه كما
تفيد بعض النصوص.
ويرى
ميلود ولد المختار خي.
"أن
محنض بابه كان إذا قضى بين الخصوم ألزم الملد وأجبره على الحق ولو كان ألد الناس
وأعرفهم بالخصومات..." وقد يكون لاستقامته في فصل الخصام وحرصه على اتباع
الحق وصون شرف المهنة الدور الأساسي فيما يتمتع به من نفوذ ولذا اعتبره أدييجه
الكمليلي. المشار إليه من أهل حل المشكل ومن يعتمد عليه بل من لا يصغى إلا إليه في
أحكام النوازل" وأكد على ذلك الرأي في مكان آخر من استفتائه إياه المطول في
شأن نازلة تتعلق بصلاحيات وصي المحجور عليه حين خاطب محنض بابه قائلا:"وأنت
اليوم في أهل البلد مسموع الكلام فيما ينزل من الأحكام، كما خرج محنض بابه ولد
اعبيد على ما درج عليه فقهاء عصره من تعطيل الأحكام الجنائية لغياب السلطة وقال
بالقود في القتل العمد وحكم به غير ما مرة ولم يشترط في القود وجود الحاكم بل
اكتفى بأمن الفتنة كما صرح بذالك في فتواه الشهيرة القائلة: "الحمد لله وما
توفيقي إلا بالله والصلاة والسلام على محمد وأصحابه أما بعد فإن إقامة الحدود والقصاص
لا يشترط فيها حكم الحاكم وإنما يشترط أمن الفتنة كما نص عليه خليل:
"فإذا طاع أولياء الجاني بقتله" لم يتوقف على وجود الحاكم وإذا امتنعوا
فقد خالفوا الشرع وحكمه ومنع أولياء الدم أخذ حقهم لما يترتب عليه من المفسدة هذا إذا
لم يكن القتل غيلة وأما إن كان القتل غيلة فالحق فيها لله فلا يجوز فيها الصلح
بمال كما في المدونة ونقله الحطاب اللهم إلا أن لا ينقاد القاتل و أولياؤه لحكم الشرع والعياذ بالله ثم إذا صولح
فعليه جلد مائة وحبس سنة حقا لله تعالى تأخذه منه الجماعة إن لم يوجد حاكم إلا أن
يلزم على ذلك فساد أو فتنة والإثم والملام على مانع إقامة الحدود والسلام على من اتبع
الهدى وعصى النفس والهوى.
وإذا
كان محنض بابه قد طبق الحدود فيمن لمن تكن لهم عصبيات تمانع دونهم فإن أحكامه
بالقصاص على ذوي العصبيات القوية لم تجد طريقها إلى التنفيذ ودخل بسببها مناظرات
حامية الوطيس مع بعض علماء العصبيات القبلية المستهدفة بالقصاص.
فقد
اعترض على حكمه لدابلحسن بالقصاص من إيدوعلي في أعقاب يوم "لميلحة" سنة
1257 – 1831هـ فتى ولد سيدنا المتوفى 1839هـ في فتوى يعبر عنوانها عن مضمونها
بوضوح سماها "تنبيه العالم العلامة في موانع القصاص والقسامة" وسبق
الحديث عن مناظرته مع محمد لولي بن اليعقوبي في شأن النازلة التندغية.
وسنعرف
المزيد إن شاء الله عن مدى قدرة العلماء على مراجعة القضاة في النوازل القضائية
وذلك من خلال الفصل الخاص ب "محمذن فال ابن متالي ومراعاة الخلاف.
-
تمكن
الرجل اللغوي فهو كان على دراية فائقة باللغة العربية
-
قوة
مدركه في الفقه وسعة خياله المعرفي
-
معرفته
الزائدة بأصول الفقه وقواعده
ولكن
المهم عندنا الآن هو أن نعرف أثر هذه الموسوعية في فقهه وسنقسم هذا المبحث إلى
ثلاثة مطالب.
سنبدأ
هذه الترجمة بذلك التعريف المقتضب الذي كتبه محمد محفوظ ولد أحمد المجلسي حيث قال
عنه محمذن فال بن متالي بإعجام الدال، هو نادرة زمانه في العلم والصلاح كان مدرسا
ومؤلفا ومرشدا عمت شهرته الآفاق وتتلمذ عليه كثيرون وله عدة مؤلفات عاش بمنطقة
"القبلة" وتوفي 1287هـ.
أما
التعريف الثاني فهو مختصر ولكنه أكثر تعريفا بهذا العلم الراسخ والطود الشامخ، هو
العالم العلامة والبحرالفهامة وحيد زمانه وفريد أقرانه جمع بين الشريعة والحقيقة
اشتهر بالصلاح والعلم والورع.
أما
اسمه محمذن فال بن متالي من محمذن بن أحمد بن أعمر بن ابيج بن بيج بن فودي وهذا
الأخير هو الجد الجامع لبطن إيدكفودي الذي ينتمي إلى قبيلة تندغة عن طريق التحالف
القبلي ويتصل نسب "فودي" بأحد الشرفاء الأدارسة وهو محمد الملقب بأبي
بزول
وأمه جليت بنت محمدن بن حابيب بن الحيوية تجتمع مع أبيه متالي عند جدهما أبيج يلقب
محمذن فال هذا بمتالي ولد سنة 1205ه 1790م وقد نشأ وترعرع في أسرة عريقة في الصلاح
والتقوى فوالده متالي تحكى عنه حكايات خارقة تدل على صلاحه.
وقد
أرسلته والدته رفقة ابن خالته "أمغر" بن حبيب اليحوي إلى احد علماء
المنطقة وهو المؤيد بن مصيوب الكمليلي ليدرس عليه ثم عاد من عنده إلى أحمد بن
العاقل الأبهمي الديماني ليستعير منه كتاب الكوكب الصاطع في الأصول فأعاره إياه
ولا يعرف له من الأشياخ إلا المؤيد بن مصيوب الآنف الذكر.
وأكثر
المتحدثين عنه من الكتاب والمؤرخين يذكرون أنه فتح
عليه وهو صغير السن.
عاصر
علماء أجلاء ودخل معهم مساجلات فقهية رائعة لما خلفته من إثراء الساحة الفكرية
والعلمية تلك الأيام مما ينبئ عن تفوق جيل الأمس في العلم ودماثة أخلاقهم، وتمسكهم
بالحق ومن أهم هؤلاء العلماء لمجيدري ولد حبل ولول بن اليعقوبي وحرمه ولد عبد الجليل
ومحنض باب ولد أعبيد كما مر معنا سابقا.
يتمتع
ولد متالي بصيت ذائع وسمعة طيبة واحترام من طرف الجميع وخاصة قبائل الزوايا،
وقبائل بني حسان الحاكم باترارزة اعتنق الطريقة الشاذلية في التصوف وأخذها عنه خلق
كثير هدى الله به جمعا غفيرا من البشر أما تلامذته فمن أشهرهم المختار بن ألما
الديماني اليداجي وعبد الله بن
مختارنا الحاجي وأحمد بن المختار المالكي التندقي والطبيب أوفى
بن أبي بكر الألفغي.
ومن
أشهر مؤلفاته نظم الشهداء
-
نظم
فيه شهداء جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم
-
النصيحة
أو الوصية وهي نظم في التصوف
-
الجميل
بسعادة المحيا والمماة
-
الظل
المدود وهو نظم مع شرحه للرد على المعتزلة وتقسيمهم صفات المعاني
-
صلاح
الآخرة والدنيا في تفسير القرآن
-
نظم
الأخلاق في السيرة النبوية
-
تسديد
النظر في المنطق شرح به مختصر السنوسي
-
فتح
الحق، وغيرها كثير
توفي
رحمه الله سنة 1287هـ 1896م وقد دفن بالمقبرة المشهورة ب"انوعمرت"
الواقعة جنوب شرق انواكشوط على بعد 60 كلم.
أما
مكانته الاجتماعية فللحديث عنها يكفي شاهدا مراجعة النازلة التندغية بمختلف
حيثياتها وخاصة تلك الرسائل التي تبادلها مع محمد لولي اليعقوبي ومحنض باب ولد
اعبيد فيها إذ نلاحظ أن ابن متالي كان يتكلم فيها وكأنه مفوض من طرف مجتمعهم له
صلاحيات واسعة ويرى ابن عبد اللطيف أن ذلك كله عائد إلى احترام الجميع للرجل وذلك
لمكانته العلمية الفذة
والدليل على ما قدمنا ما سنراه قريبا عندما نصل إلى نماذج من فتاويه أو تحكيماته.
وحسب
محمدن ولد سيد محمد ولد حمينه فإن محمذن
فال بن متالي أفتى بغير ما ألفناه عند علماء وفقهاء هذه البلاد في عدة فتاوى صدرت
عنه منها:
1)
قوله
في النية:
فالنية
في العبادات عند جمهور العلماء يجب أن تسبق العمل أو على الأقل ترافقه (أي تصاحبه
وقت الإنجاز) وخاصة عند المالكية وذلك لأنهم يقولون في كتب فروعهم أن النية تسبق
العمل لأنها عمل قلبي مفاده القصد إلى الشيء أما ابن متالى فيرى خلاف هذا حيث يقول
في فتوى من فتاويه الشهيرة أن الإنسان يكمن أن يعمل العمل من صلاة وصيام وصدقة ثم
يتبعه النية وله في ذلك:
إلحاق
نية العباد العملا
|
|
بعد
المضي جاز لنا تفضلا
|
2)
قوله
في معامل الأيتام
وفي
جواب لسؤال عن كيفة معاملة الأيتام في أموالهم أجاب بأن معاملتهم جائزة ما دمت في
حدود المعروف بل وذهب أبعد من ذلك حتى إنه أفتى بجعل إتاوات
على الأيتام وعلل تلك الفتوى بقوله: "لكي لا يكبروا وهم لؤامى" وهنا لا
تخلوا هذه الفتوى من نظرة مقاصدية وإن كان فيها خروج واضح على فقه مالك وخاصة
القاسمي الخليلي الذي ينص علماؤه على أن معاملة الأيتام تقتضي التورع الزائد
وقد ذكر ابن عبد اللطيف أنه وقف على فتوى
لأحد علماء هذه البلاد تفتي بأنه على المرء أن يجعل احتياطا من ماله حفاظا على مال
الأيتام وتقترب فتوى ابن متالي هذه من فتوى النابغة الغلاوي في شأن أيتام أهل
القبلة عندما جاءهم، حيث لاحظ عليهم مسائل من بينها عدم ورعهم في معاملتهم مع
الأيتام مع مسائل أخرى وقد قال له أحمد بن العاقل أما بالنسبة لمال الأيتام
فسأجيبك عنه بعد ثلاثة أيام وكان أحمد بن العاقل قد أوصى كل من يكفل يتيما أن لا
يسقى شيئا من ماله إلى ثلاثة أيام فلما كان اليوم الرابع وبلغت الماشية من العطش
مبلغا كبيرا أتى أحمد والنابغة البئر، فلاحظ النابغة ماشية في غاية العطش وسال
عنها لمن هي؟ فأجابه أحمد إن ذلك مال ايتام الحي فقال النابغة واجروا عليه من
يسقيه بثلثه.
3)
مسألة
الحلف بالحرام
سؤل
الشيخ محمدفال بن متالي عمن سمعت منه زوجته الحنث في الحلف بالحرام هل لا تمكنه أو
تمكنه وهل يحد قاذفه؟
فأجاب:
بأن مسائل الخلاف بين الصحة والفساد صحيحة ما لم يحكم حاكم بفسادها فما لها قبل
حكمه بالفساد أن تمنعه من نفسها ويحد
قاذفه وكمقارنة بين هذا الراي ورأي محنض بابه السابق في المسألة نرى تباينا واضحا
بينهما إذ يرى محنض بابه خلاف ما رآه الشيخ بن متالي تماما، حيث يقول محنض باب إن
زوجة الحانث بالحرام تحرم عليه ولا يحد قاذفه ومن افتاه بغير هذا يأدب.
4)
مسألة
التعليق في الزوجة
سؤل
ابن متالي هل تعليق الزوجة كالتعليق في الأجنية في الخلاف؟
فأجاب:
لم أجد في خلافا منصوصا ولم يسلم محمد محمود
وجود الخلاف
6
وطأ المشركة
سئل الشيخ محمد فال بن متالي عمن حلف بالطلاق أن
لا يطأ وطأ مجمعا على تحريمه فوطئ مشركة هل يحنث أم لا؟
فأجاب:
لا يحنث لأن عدم حده إنما هو لمراعاة القول بالحلية ومثل هذا في فتاويه كثير جدا
أي مراعاة الخلاف.
كما
أفتى شيخنا بن متالي في فتاوي متعددة بإجراء عرف أهل البلد في تلك الفتاوي وخير
مثال على ما نقول ما يلي:
1)
اعتباره
شتم أبوي الزوجة كشتمها.
سؤل
ابن متالي هل شتم أبويه الزوجة كشتمها في إيجاب التخيير؟
فأجاب:
الفعل بالآباء كالفعل بالأبناء بدليل قوله تعالى: {واذكروا نعتمي التي أنعمت
عليكم...} وحدثنا أن تسلم بنت
أعمر أكدبيجه كانت تحت رجل من بني ديمان وله ابنة من غيرها متزوجة فقالت له تسلم
هل اشتريت بناء لزوج ابنتك فإني مررت به ورجلاه ضاحيتان فقال لها إني لست كأبيك
الذي يجعل على بناته جعلا فتهيأت للمسير فقال إلى أين، فقالت خيرتني بالأمس فاخترت
الفراق وسلم ذلك علماء ذلك الزمان وهذا عين إجراء العرف والحكم به لصاحبه.
2-
في معاملة مستغرقي الذمة:
يقول
ابن متالي في معرض حديثه عن مستغرق الذمة وذلك من خلال قراءة سوسيوثقافية في سبعة
فتاوي تتعلق بمعاملة مستغرق الذمة اقتصرت هنا على اثنتين منها فقط وذلك تجنا للطول
الممل يقول في الأولى ردا سؤال نصه سؤل ابن متالي عن قوله لا ربا بيننا وبين
مستغرق الذمة فأجاب هم: أحرى بالمنع من العبيد. أما الثانية فهي تستغرق الذمة
بقتال بني حسان بينهم أم لا؟ فأجاب: بأن القتال لا تستغرق الذمة لأن المترتب عليه
قصاص لا مال.
3-
مسائل الحبس:
سؤل
الشيخ محمد فال بن متالي عن قسمة الحبس بالبت فأجاب بأن منع يقسمته بتا إنما هو
لكون القسمة بيعا وبيع الحبس لا يجوز وقد أفتى علي بن ابن محسود
رضي الله عنهما كما في العمليات في جواز بيعه للضرورة وقد جرى العمل بقسمته بتا
للضرورة أيضا وفي وجود العبيد
في الحبس يرى الشيخ محمذن فال بن متال عتقهم وتعويض قيمة غلتهم فقال في معرض حديثه
عن العبد المحبس الممثل به المحبس فأجاب: بأنه يعتق عليه، وعليه قيمة غلته للمحبس.
أما
إذا اشترط المحبس الرجوع متى شاء، فيرى ابن متالي الرأي التالي:
بأنه
إن شرط الرجوع متى شاء فله شرطه وإن شرط الاعتصار متى شاء حمل على المقصد الشرعي
فيفوت عليه الاعتصار ما يفوت به
ويرى ابن متالي أن الوقف يثبت بالإشاعة وشروطها كشهادة السماع
وعند إطلاق الوقف هنا بهذه البلاد يرى ابن متالي أنه يصير معقبا حيث أطلق ولا يدخل
فيه ولد البنات.
وقد
استوقفني كثيرا وأنا أكتب هذه السطور فتواه بعدم صحة وقف مستغرق الذمة بعد حسن
توبته وذلك لما سؤل هل مستغرق الذمة من كتاب لمغافرة بعد حسن توبته يصح وقفه أم لا؟
فأجاب:
لا يصح وقفه بل يكون للفقراء.
هذا
وبعد أن قرأنا قراءة متأنية في فتاويه ورأينا بعضا من تلك المسائل التي خالف فيها
العلماء وذلك من خلال آراء وفتاوى متعددة له في الفقه حان الوقت لأن نقرأ في نوازل
التحكيم عند ابن متالي.
1ـ
مسألة ردة الأبابكية
بعد
وفاة محنض بابه ولد اعبيد رفعت إلى محمذن فال بن متالي نازلة مقتضاها حسب الروايات
الشفوية المتاحة أن امرأة من
أهل أبابك سألت ابنة لها عن الملائكة وصفاتهم وأثناء حديثهما قالت البنت أن
الملائكة يأكلون فحكم بعض العلماء "أحمدو فال ولد محمذن فال الموسوي بردتها
وبالتالي بطلاقها من زوجها فناظر ابن متالي أحمدو فال هذا قائلا: مدى الدليل على
عدم أكل الملائكة في كتاب الله فرد عليه أحمدو فال بأنه يكفي أصل خلقتهم النورانية
فقال ابن متال إن الدليل في قوله تعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}
أي أن استغراق التسبيح للظرف الزماني كله هو الدليل لأنه لم يبق وقت للأكل ولا
لغيره وعقب ابن متالي بأنه إذا كان يخفى هذا الدليل على بعض العلماء فبالإحراء
امرأة تشرب اللبن في جانب متاع بيتها
وبالتالي حكم ابن متالي بعدم ردتها وبعدم طلاقها أما الدليل عن ابن متالي فهو دليل
الإشارة في قوله تعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون}
ولا تخلوا هذه الفتوى من خروج على مشهور المذهب
لأن نصوص المذهب تفيد أن ناسبة النقيصة إلى الملائكة أو الرسل مرتد.
2ـ
مراجعته لمحنض بابه ولد أعبيد بحكمه على عبد بالقتل قصاصا
كان
منحض بابه ولد اعبيد قد حكم على عبد بالقتل قصاصا فطلب محمد لحبيب من محنض بابه
تأخير التنفيذ حتى ينظر محمذن فال بن متالي في الحكم ويعرف هل فيه مطعن أم لا؟
فطلب الأمير محمد لحبيب من محمذن فال بن متالي النظر في ذلك الحكم، فإذا بالعبد له
ست أخوات كلهن حامل فقال ابن متال مخاطبا الشيخ محنض بابه أما ترى أهي القاضي أنه
عند قتل هذا العبد يمكن أن تنجر عن ذلك مفسدة أعظم من مفسدة عدم القصاص لأنه لو
قتل لأجهضت أخواته الست وربما متن كلهن فينجر عن ذلك قتل اثنتي عشر نفسا فرضي
الشيخ محنض بابه ووقف التنفيذ حتى تضع أخوات الرجل وبعد فترة رضي أولياء دم القتيل
بالدية فتحملها الأمير محمد لحبيب.
3
تعقيب ابن متالي على رسالة محمد لولي اليعقوبي إلى محنض بابه في النازلة التندغية
روى
لنا ابن متالي في إحدى رسائله إلى محنض بابه قصة تحكيمه في الطور الأول من النازلة
التندغية وأنه دع الأطراف إلى الصلح وأبرم الصلح وأرسل رجالا للوفاء بشروط الصلح
وقبل أن أتي برسالته فيها التي عقب بها على رسالة نلفت الانتباه إلى أنه في الفصل
الثاني من هذا البحث ذكرنا أن كل واحد من الشيخين رجع إلى رأي الآخر في واحد من
تطورات هذه النازلة. وكانت رسالة محمذن لولي بن اليعقوبي إلى محنض بابه مليئة
بنقضه لحكمه ومنع إقامة القضاء وأركانه بهذه البلاد لانتفاء الولاة والحماة ونحوهم
وعقب ولد متالي على رسالة محنض باب تعقيبا هذا نصه: "الحمد لله والصلاة
والسلام على محمد وآله هذا وإنه لا مخبأ بعد بوس ولا عطر بعد عروس.
فشمر
أيها الناقض عن ساعد جدك واكشف عن ساعدك وعضدك واستعد بمن تحمد رأيه واجتهد من
ترضى هديه وأدر قبل الحز المفاصل
واعرف قدر من تناضل ثم احتك بمحك الإقليم أو تب واكتف بالتسليم والسلام".
محمذن
فال بن متالي
وفي
رسالة ثانية يقول محمذن لولي بن اليعقوبي:
"أن الحكم بالقصاص في هذه البلاد لا يفيد إلا العداء والفساد وكثرة المشاجرات
وقوة العناد فما حكم الله فيه لأهل البلاد. فهل يتعين مع وجود الأحكام المشهورة
المصلح بين العباد مع الآيات المحكمات والسنة القائمة والآثار الدالة على الرشاد
أو يصار إلى ما يدفع الفتنة والجهاد أو يعين مع عدم الولاة وفساد الجماعات وضعف
القضاة...." قوله في قضاة هذه البلاد
سئل الشيخ محمذن فال بن متال هل للمحكم نقض حكم غيره؟
فأجاب:
بان ذلك جار على قولهم من فعل مالا ورفع الحاكم لم يفعل سواه هل يكون ذلك كحكم
الحاكم أم لا؟.
وأما
قوله في جوابه لما سؤل هل ينقض حكم من حكم بقول خارج المذهب
فأجاب ينقض إن لم يكن مجتهدا ولا ذي رأي يرى صحة الحكم به فلا يرى لقوله وإلا
فأمثل مقلد يحكم بقول مقلده
والمراد بأمثل مقلد من بلغ رتبة الترجيح وقال النابغة في نظمه بوطليحية:
يعني
أنه يلزمه الحكم بالراجح من مذهب مقلده والمشهور منه وإلا نقض قال صاحب العمليات:
حكم
قضاة العصر بالشذوذ
|
|
ينقض
لا يتم بالنفوذ
|
أما
جوابه عن قولهم أن جماعة المسلمين تقوم مقام الحاكم فأجاب بأن ذلك لا يتحدد له محل
بمعنى أنه متى استطاعت القيام بذلك وجب عليها وهذا ما درج عليه فقهاء هذه البلاد
وغيرهم من المغارب.
في
حين يعطي بعض الفقهاء لفئة المحكمين صلاحيات واسعة إلى حد ما يرى ابن متالي أن
المحكمة يعتبر رأي فقهي وخير مثال على ذلك روايته في قصة تحكيمه في النازلة
التندغية ومضاعفتها حيث أمدنا بنصين مكرسين لذلك الموضوع.
فقد
عرض في النص الأول ملابسات تحكميه في الطور الأول من النازلة وطريقة معالجته إياها
وما آل إليه أمرها فبين أن المجني عليهم طلبوا من الجناة المرافعة فاستجابوا لها
وحكموه فيما شجر بينهم وقبل ابن متالي التحكيم رغم كراهيته لفصل الخصام وبذل الجهد
"في سبيل تبين الحكم بالحق والبعث إلى من يظن به العلم حجزا عن القتال بين
الفئتين "شريطة وجود "جماعة تلتزم إنفاذ ما يحكم به..." فالتزم كل
من حضر ذلك ثم أتت أعيان كل عشيرة من عشائر تندغة والتزمت ذلك وبعث بالتزامه من لم
يحضر من تندغة ومن هو في عدادهم شرقيهم وغربيهم وشافه به كثير من زوايا الإقليم
أصليهم وتائبهم والتزم الجناة الإنقياد لما يحكم به كائنا ما كان وأظهروا ذلك
وأشهدوا به كل قاطن وقادم ثم بعثت بالاستشارة إلى كل ذي أهلية فمن مفت بقتل واحد
من القسامة صونا للدماء ومن مائل لقتل جميع من خرج بآلة قتل بلا قسامة..."
أما
النص الثاني فيتعلق بالطور الثاني من هذه النازلة ونصه بالحرف كما يقول ولد السعد:
" وألح المجني عليهم على ابن متالي بالحكم بقتل الجميع فلم يزل يسوفهم
"رجاء أن يوجد سبيل إلى ما هو أقرب إلى إزالة الشحناء أو تقريرها حتى تبرم
المجني عليهم وضجروا وأبوا التسويف وطالبوا بإصدار حكم القتل ناجزا على جميع
الزاحفة وآل الأمر بعد أخذ ورد إلى الحكم بقتل واحد بالقسامة اعتيض عنه بعد لأي
بدية مغلظة لم يوف بها.
فما
كان من ابن متالي إلا أن طلب تدخل محنض لحبيب لحمل الجناة على الوفاء على ما تم
الاتفاق عليه.
ويبدوا من منطوق رسالة ابن متالي العتابية إلى
تندغة أن مضاعفات تلك النازلة قد فاقمت السراع بين الفصيلين التندغية وأن حلها قد
مر بمنعرجات كثيرة وما يهمنا هنا من تلك الرسالة هو إشارتها إلى لجوء أحد الأطراف
إلى محمد لحبيب لحل النزاع وما فعل بهذا الشأن حين قالت إحدى الطائفتين "أما
الإبل التي أخذ محمد لحبيب فلم يصدر مني في شأنها إلا أني قلت على رؤساء الأشهاد
{وكفى بالله شهيدا} خذ لنا أموالنا لما قال لي: "ما ذا أفعل بتندغة أبو الشرع
بعثت إليهم فامتنعوا فمن ادعى علي بذلك فانقيادا لحكم الله تعالى بالرسن".
ومما
مر معنا نلاحظ أن ابن متالي بوصفه محكما هنا يرى أنه يقدم رأيا فقهيا مستأنسا فيه
بآراء العلماء وفقه البلاد السائبة وعرف أهل البلد الذي تعود أهله الاعتياض عن
القتل قصاصا بالدية المغلطة ودرء الحدود بالشبهات.
وبما
أننا في البحث السابق قد تكلمنا على رسالة محنض بابه التي عقب بها على نقض محمذن
لولي بن اليعقوبي لحكمه بالقصاص في النازلة التندغية وأوردنا جملا من فحوى بالمعنى
وجئنا برسالة ابن متالي كاملة لقصرها فإنه حري بنا الآن أن نقدم مقطعا من هذه
الرسالة أي رسالة محمذن لولي بن اليعقوبي وذلك لما لها من أهمية علمية في هذا
المجال إذ عمل محمذن لولي جاهدا على تأصيل تعطيل الفقهاء الموريتانيين لذلك الحد
في نقضه حكم محنض بابه بالقصاص في النازلة التندغية فقال مخاطبا ابن اعبيد
"... أنت تقول بعدم الأركان التي يشاد عليها القضاء وتقر بعدم الولاة
والحكماة والقضاة وعموم الفساد والأحقاد وتحكم بين هذه الأجناد....
فالمشهور
في النازلة ـ كما علمت ـ في المذاهب الأربعة أن القتيل إذا لم يعرف قاتله إن كان
ثم لوث أو كان في محلة أو قرية أعداء لا يخالطهم غيرهم أو ادعى الولي على معين حلف
الأولياء خمسين يمينا على المدعى عليه وتأخذ الدية من عالقته إن ادعى عليه الخطأ
وإن ادعى عليه العمد أخذت من ماله ولا قود عند أكثر المالكية والشافعي والمحققين
وأحد قولي مالك ومذهب أحمد، وأحد قولي مالك لزوم القود في العمد... وأما قولك
"ولا يكون عدم الانقياد لحكم الله تعالى بالقصاص حجة للممتنع منه" فهو
مخالف لما عليه الأئمة من أن عدم التمكين من إقامة الحدود أو الخوف على الناس من
إقامة الفتن يوجب المصير إلى ما يدرأ المفاسد مما أذن الشرع فيه وأمكن وهو مما
أغنى عيانه عن بيانه أي معاينته حتى كأنه إجماع، إذ لا يكلف الله الشخص إلا ما
استطاع فمن أتى بمقدوره مما كان من مأموره فلا حرج عليه في أموره وإلا فلا فرق في
سائر الأحكام بين العامة والقادة والحكام..."،
وهذا نفسه هو عمل الشيخ محمد المامي وغيره من علماء هذه البلاد وهذا هو عين ارتكاب
أخف المحرمين وهو قول إن لم يكن متفق عليه فقول وإن لم يكن قويا فضعيف يصار إليه
عند الضرورة وإذا كان هذا الرأي قد جرى به العمل في عموم البلاد فإن بعض الفقهاء
قد خرجوا على ذلك التقليد وشددوا النكير على القائلين به واعتبروهم معطلين لحد
منصوص قرآنا.
سنناقش
في هذا المبحث آراء متعددة لعلماء في نوازل قضائية معين ونعني هنا المراجعات التي
دارت بين ذلك الجيل حول النازلة التندغية
1-
رأي محنض بابه
الحمد
لله وما توفيقي إلا بالله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد فإن الله
تعالى أعلم بمصالح عباده وقد شرع لهم القصاص لجلبه مصلحة الحياة لدرئه مفسدة
العداء والفساد فمن تصدق به كان له كفارة يكفر تمكينه من نفسه. ـ مما آتاه أو زاره، وأنزل ذلك في التوارة
والإنجيل والفرقان وكرر حكم "من لم يحكم بما أنزل الله} من ذلك بإتقان وقد
قضى نبينا عليه الصلاة والسلام وأخبر بالقسامة في الأنصاري الذي قتل بالخيبر وهذه
الرسالة التي تشهد لصاحبها بطول باعه وكثرة علومه واطلاعه إنما تروم جعل ما شرع من
القصاص حجرا محجورا فيكون بعد أن كتبه الله تعالى وأوجبه محظورا فنفت أولا القضاء
في هذه البلاد بنفي أركانه التي عليها يشاد لعدم القضاة والولاة والجماة ثم خصصت
القضاء الواقع في أمر ابن السالم بن الفاروق وكان جالبها بلغه أنه قضي فيه بشهادة
لفيف فيه شاب تندغي وابن الشرقي الآبيد وابن الدقاق فأطلب في ذكر ما قيل في شهادة
اللفيف من الإنكار والتخصيص والتضعيف ولو شاء لتثبت وتبين إن جاءه ذلك النبأ لعله
صدر من فاسق يطعن فإن أمر ابن سالم إنما حكم فيه بعد تلومات في الاعذار بشهادة
عدول من الزاويا لا تندغي فيهم شهدوا بالسماع الفاشي بحضرة جماعة من أهل الصف
المشهود عليهم فلم يدعوا مدفعا إلا أنهم قالوا: إن شهادة السماع في اللوث شرطها طول
الزمن ـ كغير اللوث محتجين بما ذكرابن
مرزوق فلما فتحوه ولم يشهد لهم قبلوا أن يحكم عليهم فوقع الحكم على معروف وهو
"صف أركاكنه" ولمعروف وهو
"أولياء القتيل" في معروف وهو ثبوت القسامة بشهادة معروف وهو من
شهد بحضرة المحكوم عليهم وقد ذكر ابن مرزوق والبناني أن شهادة من شهد على صف معين
كالشهادة على رجل معين مع أنه إنما يحتاج لتعيين الصف الذي قتل إذا اختلط الصفان
حين القتال فتضاربوا بالسيوف وتطاعنوا بالرماح وأما إن لم يختلطوا وإنما تراموا
فلا خفاء أن القتيل إنما يصيبه صف عدوه.
ثم
إن أرجح ما أول به قولها و"ليس في من قتل بين الصفين قسامة" فإن ذلك حيث
لا تدوية ولا شاهد فقد ذكر ابن شاس عن محمد أنه رجع إليه ابن القاسم وأنه قول مالك
وأشهب وابن عبد الحكم وأصبه وقيد ابن رشد خلاف شاهد بكونه من الفريقين فإن كان من
غيرهما فلوث بلا كلام ذكره في ضيح.
وأما
قضية اللؤلؤ في التدمية البيضاء فلا فائدة في ذكرها هنا وعلى تقدير أن من حكم في
هذا الأمر لم يكن قاضيا فلا أقل من أن يكون محكما فيمضي حكمه إن كان صوابا فقد رضي
بتحكيمه الخصمان والأمير المتغلب الذي جعل الفريقان الأمر بيده خيارا أو قهرا
والقهر على ما اقتضاه الشرط يلزم...
ولا
يكون عدم الانقياد لحكم الله تعالى بالقصاص، حجة للمتنع منه فلو كان التمرد على
الأحكام حجة لبطلت الحقوق وفتح للظلم باب لا يسد.
فما
أصاب تاشدبيت وفريق أدوعل وإيداب لحسن إنما أصابهم من عدم الأنقياد لحكم الله ولو
انقادوا له لما وقع بينهم ما وقع والله أعلم بمصالح عباده منهم فقد قال عمر بن عبد
العزيز: "إن لم تصلحهم السنة فلا أصلحتهم البدعة" ثم إن الذب عن من
امتنع من الأحكام والاحتجاج له مما لا ينبغي كما في آية النهي عن المجادلة عمن يختان نفسه، وكما في الآية الأخرى
التي تبين أن الإنسان إن جادل عن غيره في الدنيا فمن سيجادل عنه يوم القيامة...
فأعوذ
بالله من زمن تكون فيه السنة بدعة وينصر فيه الباطل ليغلب دين الله وشرعه ومع هذا
فإني والحمد لله لا يتغير خاطري على من نقض ما حكمته في تلك القضية إن رآه منقوضا،
وأما أنا فما أراني الله ما أنقضه به بل أرى نقضه من نصل البدع وإغراء لمن قدر على
الظلم ولم يزعه الورع والسلام.
وأما
محمذن لولي بن اليعقوبي فقد قدمنا نصه بالمعنى في المبحث الذي قبل هذا وهنا سنأتي
برسالة محمد امبارك بشأن النازلة التندغية في الدماء.
2-
استفتاء محمد امبارك بشأن النازلة التندغية في الدماء
أما
بعد فمن مرسله المستمي آخرا إن شاء الله إلى جماعة القاضين محط رحال المستفتين
والمتقاضين من جميع الأراضين عموما وخصوصا المصطفى ولد أحمدو فال وأحمد بن محمد...
أزكى سلام وأتمه وأخصه وأعمه موجبه أن نازلة بنا ألمت جلت وطمت وعلينا غمت وهي أن
باغية صالت وزحفت على فئة مظلومة إنذرت ولم تستطع هربا بهجوم العدو والضعف فرفع
أمرها إلى القاضي فحكم بإهدار دم الزاحفة وزعم أن دم الدافعة عقل على الزاحفة
مستندا في ذلك إلى كلام في ابن مرزوق نسبه لعياض في التنبيهات وزعمت العامة أن دم
الدافعة قصاص في الزاحفة مستندة إلى ما في التوضيح أن المذهب اتفق على أن
المتمالئين الحاضرين مباشرين أو متسببين يختص من جميعهم من ضرب ومن لم يضرب وعلى
ما في قوانين ابن جزي ونصه: "تقتل الجماعة بالواحد خلافا للظاهرية فإن اقتص
من بعضهم وعفي عن بعض عزر المعفو عنه بالضرب مائة والسجن عاما سواء في النفس أو
الجراح ولم يكن خلاف غير هذا وهو ملتزم لذكر الخلاف العالي".
ورفعت
إلى الشيخ سيديا فأجاب بما مضمونه ما وقفنا عليه من عامة شروح خليل متواطئون "أن
دم الدافعة قصاص في الزاحفة ولهم القصاص من بعض والعفو عن بعض والصلح مع بعض كما لابن هارون"
وقعت فحكم فيها ابن متالي بأنها تمالؤ والزم القصاص وناقشه محنض بابه في ذلك
فأجابه بما نصه: "لتعلم أن الظاهر ما استظهره البناني من قتل لجميع الجماعة
الزاحفة لقتل واحد من الجماعة الدافعة"، ونصه: "وانظر إذا قتل واحد من
الجماعة الدافعة هل يقتل به جميع الجماعة الزاحفة كما هو ظاهر لأنهم متمالئون"،
وقد سأله محنض بابه عن النص على هذا فقال لم أهتم بشيء غير هذا لأن البناني أتم
نظرا مع كثرة العلماء والكتب في أقليمه ولم يخالف. وربما يكون هذا إشارة من ابن
متالي إلى أن كلام البناني يقرب من الإجماع داخل المذهب، ورفعت أيضا فأفتى فيها
بالقصاص من كل الزاحفة ونسبه للرهوني وصورة ما قال قولي أن الرهوني سلم استظهار
البناني من باب قول أهل الجماعة أن
المعتزلة أثبتوا المعاني في مسألة سواد حلاوة فليتأمل كلام الرهوني من اعتمده حق
التأمل وما ذكرته إلا ليمعن من حكم النظر في حكم أفراده من خرج ومعه آلة قتل
وأعملها، هل يسع من احتاط لدينه تقليد أن البلاد التي لا حاكم لها يجبر فيها ولي
الدم على أخذ الدية ومن يجبر المظلوم مع عدم من يجبر الظالم مع أن الآيات متواطئ
على أن من لم يحكم بما أنزل الله فهو من الكافرين وأيضا من الظالمين... فيا عجبا
كتاب الله يناقش ما لا تصلحه السنة لا تصلح البدعة، تحسين العقول اعتزال ثم إن من
ناقش القاضي، قاله أخبرني عن هذا أهو تعبد فأرني نصا على ذلك فعلى الرأس والرقبة
أو تعليل فأبن لي العلة أو ادفعني لعالم أو كتاب بانت له فبينها أو نقل فهذا بالغ
غاية الندور فلا يحكم به لندوره أبينوا لنا هل القول ما قال القاضي من الحكم بقول عياض
مع شذوذه أو لا يسعه إلا ما انتشر في الكتب وحكم به الأماثل والسلام عليكم وعلى من
اتبع الهدى.
تم
سؤال جاهل عما جهله وهو أن الجرح إن كان مثلا لا قصاص فيه، كمأمومة هل يتكرر عقله
في الزاحفة تكرر القصاص لجمع العلة أو لا يتكرر لكونه مالا المرسل... كاتب آخره.
محمد
امبارك بن أبي بكر بن سعيد أسعدهم الله وجميع المسلمين بمنه وكرمه
كنا
في ما مر معنا قد وقفنا على ذلك الرأي الذي يحد من صلاحيات المحكمين قانونيا أو
قضائيا والآن بصدد إثبات أهليتهم القانونية واعتبارهم قضاة شرعيين كأسلافهم من
القضاة في الأندلس والمشرق الإسلامي معتمدين على آراء متعددة لعلماء أجلاء وفقهاء
أفذاذ ملخصين ذلك في ثلاثة مسائل.
الأولى:
اعتدادهم بقضائهم والاحتجاج بما جرى عليه عملهم اعتدادا واحتجاجا يساويان الاعتداد
والاحتجاج بقضاء القضاة من غيرهم وما جرى عليه عملهم ويظهر ذلك من مكتوب موقع من
طرف الشيخ محمذن ولد محنض بابه.
ومسلما من طرف الشيخ محمذن فال بن متالي وصيغة المكتوب: مكتوب يعلم منه أن الذي
عليه قضاة زوايا لمغافره فيما أعلم كأحمد ولد العاقل ومحنض باب ولد اعبيد وحرمه
ولد عبد الجليل وغيرهم إلزام المتهم البينه إن وجد عنده لحم أو فرث أو غير ذلك من
الأمارات أن اللحم أو غيره من غير ما ادعى متهمه أنه منه وإلا حلف متهمه أنه من
شاته أو ناقته أو بقرته وغرم والحكم عندي بغير ما عليه عملهم منقوض فالظاهر من
استدلال محنض بابه لعمل هؤلاء القضاة اعتبار قضاة هذه البلاد قضاة لا محكمين
واعتبار قضائهم كقضاء سائر من تقدمهم من قضاة الإسلام والظاهر من تسليم محمذن فال
بن متالي أنه يرى ما يراه محمذن من اعتبار ذلك.
الثانية:
إجازة أحكام القضاة وذلك كما في نوازل محمد بن المختار باللعمش ونصه: رأيت حكما
قضى به قاضي ودان محمد بن عبد الله بن أحمد الوداني رحمه الله تعالى بلزوم
المداراة على ما اشتمل عليه ودان من قاطنها وطاريها وما انضاف إليهم وأن من لم
يعطها منهم تأخذ منه كرها ويباع فيها ملكه شرعا وهذا ما لا شك فيه وما حكم به هذا
القاضي المذكور حق وصواب رحمه الله تعالى فواضح من كلام ابن لعمش أنه يرى البلاد
غير خالية من القضاة لإطلاقه لقب القاضي على الرجل وإنفاذ حكمه.
ومن
طالع فتح الشكور وجد فيه تراجم لكثير من القضاة وذكر سيرهم في القضاء مما يرى أن
مؤلفه كان يرى هو الآخر عدم خلو البلاد من خطة القضاء وكذلك من طالع تاريخ إمارة
اترارزه للعلامة باكا
فيراه يترجم لهؤلاء القضاة ويصفهم بالقضاة العدول النادري المثل كما في ترجمته
لأفراد من أسر أهل محنض بابه وأهل العاقل وأهل اتفاغ موسى.
ويقول
الشيخ محنض بابه ولد اعبيد في إحدى رسائله إجازة لحكم سيد أحمد ولد محم وتسليما
وإنكارا على من نقضه وتأثيما "فما حكم به سيد أحمد ولد محم من فسخ ذلك الشراء
صواب وكذا حكمه بأن المرداني يبقى له ما أخذ من الحسن..."
والفتوى بنصها في المبحث الثالث في شأن انتيرمكاي وكذلك تسليم محمد محمود ولد حبيب
الله ولقد القاضي للحكم الملحق بوثيقة محنض بابه بنفس المبحث.
الثالثة:
إنكارهم على من تعرض لأحكام هؤلاء القضاة بالنقض فإنكار كل من هؤلاء الأجلاء أحمد
بن العاقل ومحمد حرمه ولد عبد الجليل وأحمد ولد المختار ولد الطالب أجود على من
نقض حكم الأمين ولد الماحي دليل على اعتبارهم أحكام القضاة نافذة يترتب عليها ما
يترتب على حكم القاضي من وجوب العمل بحكمه وحرمة التعرض له بالنقض يقول أحمد بن
العاقل: "وبعد فإن الأمين ولد الماحي عدل عالم ولا يتعقب حكمه ومن تجاسر عليه
فتح على نفسه باب الانتقاد من جهة حفظ الشرع من أن يطرقه طارق أو يلم بساحته سارق
ويقول حرمه ولد عبد الجليل... "وبعد فمن المعلوم أن حكم العدل لا يتعقب
والأمين ابن الماحي عدل عالم..."
ويقول أحمد بن المختار بن الطالب أجود: "إني أيها الكتاب تأملت ما حكم به
الأمين بن ماحي في شأن تلك الأمة... فإذا هو محفوف بالنصوص والقواعد لا يتسوره إلا
عميان البصيرة أو معاندوا الشريعة لما أحاط به من الأسوار التي لا تتصور والتي من
أهمها تمام عدالته وغزارة علمه وقوة فطنته
فهؤلاء الأجلاء يرون في نقض أحكام قضاة هذه البلاد من الإثم ما يترتب على نقض حكم
القاضي في الإسلام من الإثم حيث ما كان وهذا الرأي يتضح أيضا مما ورد في رسالة
الشيخ سيديا بن المختار بن الهيبه التي رد بها على رسالة محنض بابه في شأن النازلة
الغلامية.
رابعا:
أن التصدي والتعرض لنقد الأحكام بعد انبرامها حرام لإفضاء ذلك لرفع الثقة بالأحكام
ولفوات مصلحة نصب الحكام كما أشار لهذا ابن مرزوق بقوله: "وإنما لا تنقض
أحكام العدل لأنها لو نقضت لتسلسل النقض فلا يقف عند حد فترفع الثقة بالأحكام
وتفوت مصلحة نصب الحكام.
وتعكس
المداولات بين العلماء بشأن النوازل القضائية أعلى صفات التواضع والوقوف عند الحق،
وخير مثال على ذلك هذه الرسالة.
وكختام
لهذا العمل نشير في الأخير إلى أن الموريتانيين اللذين تناولوا خليلا وشرحوه وخاصة
أبواب الدماءات والقضاء فإنهم كذلك تناولوا متن العاصمية بالنظم والشرح ولامية
الزقاق في القضاء ولم يمنعهم كل هذا من إيجاد إنتاج علمي جديد يضيفونه إلى تلك الكتب التي عرفت بتخصصها
في القضاء وفقهه فألفوا كتبا تنصبغ بصبغتهم وعليها خصوصية بلادهم السياسية والثقافية
ومن أهمها:
1.
البرد
الموشى في بيان منع بيع الحكم والرشى للشيخ سيدي المختار الكنتي، وهو كتاب يفهم
مضمونه من عنوانه.
2.
علم
اليقين وسنن المتقين بحسم الإتاوة المزورة بحق المستحقين للشيخ سيدي محمد ولد
الشيخ سيدي المختار الكنتي، وقد بين فيه صاحبه براءة والده وأمثاله من القضاة من
التهم بأخذ الرشى.
3.
السيف
المنتضى في الكلام على القضاء لإبن مايابا، وهو كتاب مخصص للقضاء وفقهه.
4.
طرد
الضوال والهمل عن الركوع في حياض العمل للشيخ سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم وهو
كتاب يتحدث عن المجتهدين وأعلى درجات المفتين.
5.
رد
الطرد للشيخ محمد المامي بن البخاري المباركي الشمشوي.
لقد
من الله تبارك وتعالى علينا بإنجاز هذا العمل الذي تعهدنا بتقدمه في نهاية السنة
الدراسية، وهو وإن كان عملا قاصرا إلا أنه مبلغ الجهد وكما يقال لا يلام المرء في
مبلغ الجهد ولقد تطرقنا فيه بعد أن قدمنا له مقدمة متواضعة إلى بحث مسائل متعددة
أهمها:
المسألة
الأولى: وقد تطرقنا فيها إلى الحالة الدينية والسياسية التي كان سكان هذا البلد في
القرن الثالث عشر وما مر به البلد من فترات ضعف ونهوض.
المسألة
الثانية: مسألة السلطة التنفيذية في موريتانيا قبل الاستعمار وقد بحثنا فيها ما
إذا كانت موجودة سلطة تنفيذية في هذا البلد رافضين وجود هذه السلطة في المسائل
التي يتجلى فيها بوضوح غيابها ومثولها كمسائل الحدود مثلا.
المسألة
الثالثة: تعرضنا للسلطة القضائية وبينا فيها كيف كانت الحالة القضائية لهذه
البلاد.
المسألة
الرابعة: قد أتينا بنبذ من المظاهر التي يتجلى فيها التجديد في القضاء الموريتاني.
المسألة
الخامسة: وقد نبهنا من خلالها على علاقة القضاء بالمذهب المالكي وندرة خروجهم عليه
وذلك من خلال نوادر قليلة خرجوا فيها على المذهب.
المسألة
السادسة: بينا من خلالها نماذج متعددة لاستفتاءات القضائية والتي تعكس بصورة واضحة
واقع جيل الأمس العلمي والثقافي.
المسألة
السابعة: وقد تطرقنا من خلالها للقضاء العرفي "التحكيم" ورأينا آراء
العلماء فيه وكيف أبوا نقض أحكام هؤلاء القضاة.
المسألة
الثامنة: وفيها نلفت انتباه الباحثين إلى أنه هناك جوانب تتعلق بالقضاء ما زالت
مغفلة من طرف الباحثين وخاصة ما يتعلق بالتوثيق.
وما
كان في هذا البحث من تمام وصواب فمن الله تبارك وتعالى وتوفيقه وما كان فيه من نقص
وخلل فمني ومن الشيطان وأرجو ممن وقف على خطإ فيه أن يصلحه والله يجزيه كامل
الجزاء وأوفاه، ليتدارك هذا الخطأ في المستقبل إن شاء الله.
وأعوذ
بالله أن أذكر به وأنساه، وأعوذ به أن كون جسرا يعبر منه غيري إلى الجنة ثم يرمى
بي في النار.
وآخر
دعوانا إن الحمد لله رب العالمين
الظلم من شيم النفوس فإن تجد
|
|
ذا عفة فلعلة لا يظلم
|