"خواطر من وحي صلات تاريخية ما زالت قائمة بين السنغال وموريتانيا كانت تاريخيا اترارزة والمذرذرة خاصة، أهم روافعها.. هي تذكار من زمن لم تكن فيه المدينة تعاني من العزلة كما هي اليوم، تستجدي في كبرياء من يعيد لها بضع عشرات كيلومترات ".
....................................****************..................................
هذه اندر أو سينلوي.. كما يحلو للبعض تسميتها، تشبثا بالتسمية الأجنبية، ذات الرنة الغريبة على المكان.. تبدو هذه المرة، مقفرة مهملة صغيرة وتائهة..
شيئان لم يختفيا منها رغم كل ذلك.. نكهة "تيبوجن" ذائع الصيت، يتضوع بها المكان، ووجوه السكان الأليفة، الذين اعتادوا على الأجنبي منذ الأزل..
فقط هذه المرة، كانت على القسمات، حيرة لا تخطؤها العين!!
تتقدم السيارة من الأطراف إلى وسط المدينة.. يبدو الترهل أكثر وضوحا، كلما توغلنا نحو المزيد من الأحياء، التي كانت يوما عنوانا للألق، وهذه هي اليوم، مجرد شاهد حزين وكئيب، يندب حظه العاثر في صمت ..
للأسف لم تعد اندر تلك المدينة الكبيرة الضاجة بالحيوية والشباب، والأضواء اللامعة والمحلات المليئة بالبضائع، كما زرتها أول مرة، قبل نحو ربع قرن، رفقة أخي العزيز سيدي محمد ولد مختارأم ..
الشوارع مقفرة.. قليلة الناس، ضعيفة الحركة.. الضوضاء التي كانت تصم الآذان، أصبحت من الماضي.. محلات صغيرة ومتناثرة هنا وهناك.. سيارات متهالكة تسير بتمهل، أطفال يلعبون، وغير بعيد، نسوة يعرضن بعض المواد الغذائية الخفيفة على ناصية الشارع ..
إنه مشهد خافت .. يغالب شمسا تتجه نحو المغيب منذ عقود، منهية قرونا من المجد!
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية ظهرا، ولابد من الإسراع، قبل أن تفوت فرصة الإستمتاع، بوجبة الغداء المشهورة في اندر، والتي تضرب لها أكباد الإبل من الأصقاع البعيدة ..
تذكرت قبل سنوات، قادتني مهمة عمل رفقة الزميلين مختار ولد محمد علي ومولاي ولد أييه إلى هذه المدينة، كيف أقسم الزميل مولاي، بأغلظ الأيمان أن لا يبرحها، قبل أن يتناول"تييوجين" مهما كلف الثمن.. وخضعنا في النهاية لمشيئته، رغم أن ظروف العمل، كانت تقتضي منا، أن نغادر اندر قبل الظهرعلى شاطئ البحر، اخترت مطعما شعبيا، بدا أفضل مكان للقادمين من بعيد مثلي، لتناول وجبة "تيبوجين" في موطنها الأصلي.. ورغم لطف أصحاب المطعم، وما أبدوه من حرص على الأصول المرعية والمتوارثة، لم تكن الوجبة بمستوى صيت الطبق، الذي سافر بعيدا عبر العالم من هذه المدينة.. ربما أصاب "تيبوجين" في موطنه الأول، ما أصاب المدينة ذاتها.. تبدلت النكهة وتغيرت الملامح كثيرا.. واحتفظ فقط بالمذاق القارص، وتلك الحمرة القانية التي اقترن بها طويلا في أذهاننا، منذ أمد بعيد، حتى عد " مارو الاحمر" عنوانا على الطعام الجيد!!
انشغلت عن كل تلك التفاصيل بالبحر أمامي.. كانت نسائمه تصلني بلطف.. تداعب وجهي، وتستحث عيني على الإسترخاء، مستعينة بخدر تأثير تيبوجين المعروف.
كانت الزوارق القليلة، تمخر الشاطئ أمامي، تماما كما كانت تفعل السفن الكبيرة في سالف الدهور.. من هنا مر الهولنديون والألمان فالبرتغاليون، ثم الإنغليز فالفرنسيون.. على هذا المكان تعاقبت قرون وغزوات، وأمم ودول وجيوش.. عاشت المدينة عهود مجد طويلة، امتدت قرونا، تزاحمت في شوارعها وحواريها جنسيات متباينة، وتناهت إلى آذان أهلها، ألسنة ولغات مختلفة..
وامتدت من هذه الحواري المنسية اليوم، امبراطورية استعمارية عاتية، شملت أصقاعا واسعة في غرب القارة السمراء.
بعيدا عن الأعين، زحفت السنون والإهمال والنسيان على محيا المدينة، التي كانت ذات يوم عروس كل افريقيا الغربية الفرنسية، فترهلت وبدأت تعيش احتضارا طويلا، ما زال ممتدا منذ عقود..
أطبق النسيان عليها، وغربت عنها شمس الإهتمام الرسمي لصالح العاصمة دكار التي سطع نجمها بشكل لافت، منذ الحرب العالمية الثانية، وكان أن جاء انفراط عقد مجموعة افريقيا الغربية الفرنسية، مع أفول النظام الإستعماري، فأخذ معه آخر أسباب المجد في هذه المدينة العجوز.
وحدها المباني ذات النمط المعماري الإستعماري المعروف، ما زالت شامخة، كأنها تتحدى تكالب عاديات الزمن.. علتها مسحة حزن بادية.. شحب لونها وأقفر المكان من حولها.. لا أنيس لها اليوم هنا سوى جسر "فيدرب" العملاق، وبضع نصب تذكارية من الماضي الغابر.. لكنها رغم ذلك صامدة في غير اكتراث.
حتى " ويوات" في الشارع الذين اقترن ذكر المدينة بهم، يبدون أقل قسوة وجسارة.. ربما لعب عامل السن لصالحي في هذه الزيارة!!
في اندر قسمات من أزمنة متتالية وأمكنة متباينة ومختلفة.. فيها شيئ من مدينة مرسيليا أكثر المدن الفرنسية " إفريقية" وأكثرها التفاتا نحو الجنوب.. وفيها شيئ من قرية اقليبية التونسية النائمة على ضفاف المتوسط، وربما تلمح فيها طرفا من اسطنبول حيث يتعانق العالم الثالث والثاني.. وهنا أيضا شيئ من "خور دبي" العتيق المتواري عن الحياة الصاخبة التي تكاد تقتحم عليه خلوته الأبدية، هناك في تخوم الخليج البعيدة.. ملامح تلخص أشياء كثيرة ومتناقضة إلى حد ما، تختلط فيها الوداعة والهدوء والإنفتاح!
ازدهرت هنا التجارة والأعمال، ونشطت الصلات بالجوار وبالعالم البعيد، فكانت اندر لقرون مركز احتكاك بين سكانها وأوروبيين من بلدان متعددة، وكذا مع "نارات" مختلفين.. نار كنار ( البيظان) ونار بيروت ( اللبنانيين) ونار فاس (المغاربة)..
من هذه الهجرات المتتالية والشعوب المختلفة، تشكلت تلك الملامح الخلاسية "الكرميتية" الأثيرة، التي كانت يوما طاغية على شوارع هذه المدينة المهجنة والمنفتحة..
تلك الملامح اختفت أوتكاد.. فقد هجر أغلب الناس المدينة، وقل فيها المهاجرون، وتراجع فيها النشاط الإقتصادي، وفقدت كل أهمية سياسية تقريبا.. أضحت جزء من الماضي، ينام هنا في شبه جزيرة، لا يأتيها إلا المسكونون بحب التاريخ، أو قلة من السياح، خاصة الأوروبيين، أوعابري السبيل من أمثالي.. أو من يأتون لصلة الرحم كأخي وصديقي امربيه ولد الديد الذي أجهد نفسه مرة – ونحن على الضفة الأخرى – في استحضار الوشائج التليدة بين ضفتي النهر، مستعيدا رابطة الخؤولة الخالدة بين أغلب أبناء إمارة اترارزة وسكان والو.
لكن مهما قيل، فهنا ماض حي يستحق الزيارة، خاصة بالنسبة لنا نحن الموريتانيين.. ففي حواري اندر الفقيرة المهملة المنسية، كل شيئ يذكر بموريتانيا أو لنقل على الأصح، بالعهد الذهبي لثقافة وحضارة البيظان.. ذاك جسر محمد لحبيب ممتدا كالذراع فوق البحر، رمزا لصلات ضاربة في القدم بين " انغرين الكبلي والتلي".. بين اترارزة ووالو.
وإلى هنا وصلت ذات يوم، دولة الإمام ناصر الدين، التي امتدت من تخوم إكيدي، هناك شمال المذرذرة.. وفي هذه الربوع، عزفت "الزوازي" على مدى عقود، احتفاء بتتويج عدة أمراء من اترازرة.. هنا بعض من تراث حقبة الزواج السياسي الأبرز في تاريخ البلدين، بين الأمير الكبير محمد لحبيب، وأميرة والو جنبت امبودج ..
ليست اترارزة وحدها الحاضرة هنا في ذاكرة اندر.. فالمدينة كانت حتى الإستقلال عاصمة موريتانيا.. من مبنى منظمة استثمار نهر السنغال الحالي في اندر توت، هناك غير بعيد من حي الصيادين في كت اندر، كانت تدار مستعمرة موريتاينا، على مدى سنوات طويلة.. وعرف هذا الحي وغيره من أحياء المدينة أغلب أمراء وشيوخ ومشايخ، ووجهاء وكبراء موريتانيا، من أمراء تكانت وآدرار ولبراكنة ولعصابة إلى شيوخ الحوض والركيبة واركيز وافل وادافر وكيدي ماغة والساحل وكاركورو إلى شمامة القريبة.
مرت بهذه المدينة، أسماء لامعة في مجال الثقافة والسياسة والعلم والتصوف والفن.. من هنا مرت أجيال من التجار والدعاة وتكونت هنا نواة رأس المال الوطني الذي توجه لاحقا إلى العاصمة نواكشوط بعد الإستقلال.
وفي جزيرة اندر تشكلت أفواج الإداريين والمترجمين والكتبة والموظفين الذين شكلوا نواة الإدارة الموريتانية، وغيرهم أسماء كبيرة في تاريخ وثقافة المجتمع.. وانعقدت مجالس مشهودة للعلم والثقافة وازوان.. ومن هنا خرجت المناظرات و "الاكطاعات" الخالدة لفتيان وفرسان الأدب الحساني من أمثال أولاد هدار ومحمد ولد ابن وامحمد ولد أحمد يورة، والشيخ ولد مكين وولد ابن المقداد، الترجمان المثقف، سليل اسرة اندر الأكثر ارتباطا بأوساط البيظان، منذ القرن التاسع عشر.
كل الأحياء هنا تعرف الموريتانيين ويعرفونها بدون استثناء.. كت اندر وسندونه واندر توت ولوضه وغيرها.. مرابع يعرفونها جيدا وتعرفهم هي كذلك.. تعمقت الصلة وتوثقت على مدى قرون، حتى لكأنك وأنت هنا جزء من المكان.. لست غريبا على الإطلاق..
وجدتني أقف لحظات عند طرف أحد الجسور المعروفة في اندر، قرب فندق البريد "لابوست" ذائع الصيت.. رمز الألق الآخذ في الغروب، وغير بعيد من مبنى الولاية بأبوابه الحديدية العالية، الذي يحمل قسمات واضحة من العهد الإستعماري، أتملى الموقع وأستعيد ذكريات المكان.. اندمجت في المشهد العابر للزمن، ونسيت ما يدور حولي، وسافرت برهة مع قصة عناق موريتاني اندري طويلة، بدأت منذ قرون، ربما هي التي أوحت ذات يوم، لساسة دولتنا الوليدة، أن يشهروها سلاحا لجعل هذه المدينة الأسطورة، تحت راية النجمة والهلال، في مقابل أفكار داعبت حينها، خيال شاعر الزنوجة الخالد، الرئيس ليبولد سيدار سينغور، بامكانية ضم منطقة شمامة إلى أراضي دولته الناشئة.
ضربت صفحا عن ذلك الماضي البعيد، الذي لم يعد كثيرون هنا يعرفونه.. فالمدينة فقدت الكثير من عجائزها، الذين عاصروا تلك الحقبة.. وهؤلاء الذين يعيشون اليوم هنا، أغلبهم وافدون، أو كانوا شبابا، أو مراهقين أيام الإستقلال.. تقدمت غربا.. تبدو الشوارع نظيفة وواسعة نسبيا، رغم أنها كانت خالية من المارة والسيارات تقريبا. غير بعيد كانت فنادق ومطاعم ومقاهي قليلة، تتناثر بطول الشارع، أغلب مرتاديها من الأوروبيين، وقربها وكالات أسفار وسياحة ومصارف، ومقاهي أنترنت ومحلات تجارية عامرة، أغلب بضائعها أجنبية..
أسراب الباعة المتجولين، تتوالى حاملة تماثيل صغيرة من الأبنوس والخزف، وملابس افريقية مزركشة، وتذكارت صغيرة أخرى، تعرضها على كل مار، وتقتحم في بعض الأحيان، مداخل المحلات بحثا عن زبون..
هذا هو قلب المدينة اليوم، والذي ما زال يحتفظ ببعض حيوتيها الآفلة.. وإن كان انحسر في مساحة صغيرة للغاية!!
خرجت من هذه المساحة، ووجدتني أسير شمالا.. بدأت الصورة في التغير.. لم تعد هناك أي مظاهر للبذخ.. عاد الى الشوارع هدوءها، وقل عدد المارة.. فجأة وصلتني أصداء حديث يدور بالحسانية غير بعيد مني.. رفعت رأسي، لتطالعني كلمات عربية مكتوبة على مدخل محل قريب، ثم اقتربت أكثر، فإذا أنا أمام محل للذهب والصناعات التقليدية الموريتانية..
دلفت إلى المكان دون استئذان.. كانت نكهة الشاي تستحثني للدخول، والإنضمام إلى المجموعة، وأغلبهم من الصاغة، الذين يعملون في هذه المدينة منذ عقود، تخللتها سنوات من القطيعة بسبب أحداث عام تسعة وثمانين.
وجدتني أنضم اليهم في كنف شاي، ينقصه أحد جيماته الثلاثة الخالدة، فقد كان الجمر غائبا في تلك الأمسية، وناب عنه الموقد الغازي الصغير.
أخذت جرعات متتالية من الشاي، كمن يريد قضاء "فوائت" الأيام الماضية، ومعها أحاديث طويلة من وحي المكان.. لأكتشف أنني أقمت غير بعيد من هذا الشارع، خلال زيارتي الأولى لهذه المدينة، في ضيافة المرحوم محمد سالم ولد الداه.
تغيرت منذ تلك الزيارة أمور كثيرة هنا.. تحول محله التجاري اليوم، إلى أيدي أخرى، كما حدث لعشرات آلاف آخرين، من تجار المدينة من الموريتانيين، الذين جاءتهم الأحداث المشؤومة، قبل نحو ربع قرن، على حين غرة، والقت بهم على الضفة الأخرى، تاركين كل شيئ هنا.. ثمرة أعمارهم، وعلاقاتهم، والمكان الذي ألفوه والمهنة التي عرفوها، وتميزوا فيها.. ليجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل، في بلد لم يكن يوما، ينقصه العاطلون عن العمل.
كانت تلك الأحداث واحدة من معاول الهدم التي توالت على هذه المدنية الملتفتة دوما شمالا.. ومنذ تلك الاحداث لم تستعد عافيتها بعد.. أمام عيني تتناثر دور ومنازل، عليها مسحة من الزمن الجميل، تظلل مداخلها أشجار وارفة الأغصان، وتحتها يجلس عجائز ومسنون على مقاعد خشبية عتيقة، يستعيدون في صمت الأيام الخوالي، وذكريات الماضي الزاهر الذي لايزداد إلا بعدا من هذه الربوع التي أغربت عنها شمس الإهتمام الرسمي منذ انفضاض شمل افريقيا الغربية الفرنسية التي كانت اندر عاصمتها الجميلة الجامعة .. فتحت صدرها الرحب وبكرم أهلها وألفتها التي تفرض عليك نفسها منذ الوهلة الأولى!!
تبدو الوجوه أليفة لدي، رغم أنني ربما أمر من هنا لأول مرة.. وهو ما أغراني بمواصلة السير، أتفرس المكان والوجوه، وأدقق في أسماء الشوارع والزوايا، التي تروي كما يليق بمدينة عريقة، تاريخ البلد الذي تنتمي إليه، فالشوارع والحنايا كلها تحمل أسماء لامعة في السنغال الفرنسية والمستقلة.. نواب وساسة ومفكرون، وأشياخ وأعلام من مختلف مناطق البلاد ومن اندر على وجه الخصوص.
كانت الشوارع مبلطة وواسعة، والبنايات عالية ولكنها شاحبة.. والمحلات التجارية قليلة، وأغلبها يملكها مواطنون من فوتا جلون بغينيا كوناكري.. احتلوا الساحة بعد أحداث تسعة وثمانين.. وحاولوا ملأ الفراغ الذي تركه رحيل الموريتانيين، إلا أنهم لم ينجحوا في ذلك لسبب بسيط، وهو الصلة التاريخية المفعمة بالروحية والحميمية التي تربط السنغاليين بجيرانهم الشماليين، وهو بعد يبدو أكثر ترسخا في اندر.
لا يريد كثيرون هنا العودة إلى تلك الفترة السوداء، كما يصفها أغلبهم ، فهم غالبا يتجنبون الحديث بشأنها لأسباب مختلفة.. والقلة الذين يقبلون فتح الموضوع، لا يريدون نكء الجراح، ويفضلون تغليب روح التسامح، ولا تعوزهم الحجج في وضع ما حدث، في سلة الساسة مع أخطائهم الكثيرة، خاصة الرئيسسين عبد ديوف ومعاوية ولد الطائع.. والدليل يقول محدثي - وهو مسير دور ضيافة للعابرين، وصوفي حتى النخاع - أن المصالحة تحققت ببساطة، لأن ما يربط الموريتانيين والسنغاليين أقوى من كل شيئ، بينهم وشائج الدم، وروابط الدين والجيرة.. وهي ثوابت لا تتغير، ويمضي محدثي قائلا: أنت لا يمكن أن تختار شقيقك ولا شقيقتك.. فهذا أمر ليس بمقدروك التحكم فيه.. تماما كما هو حالنا نحن وأنتم.. كبار المشايخ هنا درسوا هناك عندكم.. وكذلك أغلب مشائخكم، لهم مريدون وتلاميذ هنا.. هذه أواصر لا يمكن أن تنفصم بسهولة.. يحدث بينا ما يحدث بين الإخوة في العائلة الواحدة، ولكن آصرة الدم تتكفل بالنتيجة..
وبيتسم صديقي، وقد علت حديثه نبرة سنغالية لبقة وبرغماتية أليفة، لا تخلو من خبث مبطن : أنتم قدرنا ونحن قدركم.. وعليكم أن تفهموا، أننا أقرب إليكم من العرب.. وحتى لا يجازف بما قد يثيره ذلك من ردة فعل بالنسبة لي، أضاف بسرعة.. ونحن كذلك نعرف أنكم أقرب إلينا من غيركم من جيراننا..
ملاحظات واستنتاجات مجردة ونظرية دون شك.. لكني رأيتها بعد ذلك بساعات، مجسدة أمامي، وفي مكان غير بعيد من مقر إقامتي.. موريتاني " نار" في متجره الصغير غارق في عمليات بيع لا تنتهي يتوسط جلبة "ولفية" أثيرة، أتميز رغم عدم معرفتي الدقيقة باللغة، أغلب كلماتها.. مشهد من النساء والأطفال كل يلح في إعطائه الأولوية.. هذه تريد في استعجال "ولاط من دلوير" وذاك يريد بالحاج سجائر، وتلك تستعجل البائع الشاب ليعطيها كيلوغرام من "مار" لأنها تركت الموقد مشتعلا.. سمفونية أليفة، تتناغم فيها أصوات الزبناء، وصدى القطع النقدية المعدنية على " القنطوار" وجمل ونكت يرددها البائع، وهو يحاول إرضاء الجميع، واقناعهم بعدم الذهاب إلى زميله القريب.. ومشاكسات لفظية تنطلق من هنا وهناك.. يوميات من زمن آخر، عبرت كل هذه السنين، وما زالت تصر على الحياة، بعد عقود طويلة.. هذا الـ" نار" وغيره هنا كثيرون، يعيدون سيرة آبائهم الخالدة.. ويجسدون ما كان صديقي يتحدث عنه من صلات أخذ الكثير من وقته، واستنفد مخزونا لغويا واسعا للتعبير عنها.. هاهي أمامي مجسدة دون تكلف!!
لم أرد أن أفسد المشهد، فلم أقترب كثيرا من المحل.. وآثرت أن أتابع ما يجري على الطبيعة، لعدة دقائق كما يقال، ثم مضيت لحال سبيلي، قبل أن ينتبه أحد لوجودي..
في المساء توجهت إلى المحل، وأنا أحاول إحياء تقليد "التسكاك" المندثر.. كانت صدفة رائعة، أن أجد حول صاحب المحل كوكبة من زملائه، من أحياء مختلفة من المدينة.. وبينهم تدار كؤوس شاي من زمن آخر.. كان " القيام" يعده بطريقة لم تعد متداولة اليوم.. فهو يمزج العناصر المختلفة في الإبريق، ثم يحركه قليلا، ويتذوق هذا الخليط قبل أن يصبه في " الكيسان" بدون تكلف، ودون اهتمام بالرغوة مثلا..
كانوا رجالا في متوسط العمر، مابين الأربعين والستين، وهم من مناطق مختلفة، ومن أوساط إجتماعية متباينة.. كلهم تقريبا عرفوا مدنا سنغالية أخرى، قبل أن يستقروا في اندر.. وكلهم يتحسرون على العهد الذهبي للبيظان في هذه البلاد.. حيث كان الواحد منهم يستقل السيارة من مدينة روصو السنغالية إلى أقصى نقطة من هذه البلاد، وهو لا يملك تذكرة السفر، يكفي فقط أنه موريتاني، كان عنوانا للمصداقية والثقة، وكانت العلاقة مع مضيفيهم السنغاليين يطبعها " الفلش"!!
حاولت إخفاء هويتي الحقيقية، حتى لا أفسد علي فرصة التعرف على حقيقة مشاعرهم وهواجسهم، وطريقة حياتهم بعيدا عن أي تأثير يفرضه الوافد.. لكنني لم أنجح إلى حد بعيد.. فقد أذهب حضوري بينهم تلك الليلة كل العفوية التي كانت دون شك تطبع سهراتهم في غيابي..
في صبيحة اليوم التالي، كان لدي موعد في جامعة غاستون برجي، التي انتبذت مكانا قصيا عن المدينة.. في البداية تصورت أن صلات الماضي بموريتانيا ستكون منعدمة أو ضعيفة، نظرا لموقع الجامعة ولحداثة سنها..
لم يكن تصوري في محله.. فما إن قدمت نفسي، في أول مكتب هناك، حتى انتفض فجأة أمامي كل تراث الصلة بين اندر والبيظان، مجسدا في حفيدة عائلة أهل أبن المقداد، بكل ما يحمله الإسم من رمزية.. تذكرت مع فارق الزمان والمكان وأشياء أخرى كثيرة.. نزار قباني وقصر الحمراء والأندلس والفردوس المفقود.. فقد كانت اندر بالفعل بالنسبة لكثير من الموريتانيين، وخاصة في اترارزة فردوسا مفقودا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق