كانت "بنفاكي"
قرية آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان" اجتمع القوم لأول مرة في
صعيدها الذي يجمع مدرسة ومحظرة وخدمة إدارية إذ كانت في ذلك الوقت عاصمة بلدية
الخط، شهدت القرية ازدهارا جعلها تجذب إليها أغلب بطون وأسر إدودن يعقب خلال
الفترة ما بين 1982- 1992م ومن لم يكن هنالك منهم فقد ابتعث أبناءه للدراسة
والتحصيل لدى معلم القرآن وظاهرة الزمان الشيخ محمد بن سيدي الحجًاجي (إن صحت
النسبة للجمع) رحمه الله فقد انتهج طريقا خاصا به في التلقين والحفظ.
تداعى الناس
إلى قرية "بنفاكي" وكان من النازلين الأُوًل أسرة الرجل الصالح محمدن بن
أحمد بن حدان صحبة زوجه السيدة الفاضلة خيرة بنت خطاري، ولأن والدته أم الفضل بنت
المختارأمُ حين حضرتها الموت قد أوصته بأختها اسْهيله، وحفظا لوصاتها لم تكن تفارقه
حلا ولا مرتحلا، تنصب لها خيمة قريبة من منزلهم حتى يتعهدوها عن قرب، ويلاحظوا
حاجاتها من مزجر الكلب ومقعد القابلة.
لم تكن اسهيله
(الدًيً) تزاول من النشاط غير الركوع
والسجود وتلاوة القرآن من المصحف تارة ومن حفظها تارات، تصوم الشمس فلا تفطر إلا
لماما، وكأنها نذرت للرحمن صوما فلا تكلم إنسيا، لم تكن الدَيً تجلس في مجالس
النساء لتَلَقٍي الطوارئ، وتجاذب أطراف حديث تتخلله بعض الغيبة، والقول على الغرض،
والتناشب في الكلام، وتبيين ما يكره، مغلفا وملفوفا في ثوب من النصيحة قشيب.
كان الكرم
السمة الغالبة على الدًيً وكان صبية القرية لا يفوتون الفرصة للتسكع قريبا من
خيمتها لتناديهم، فقد تعلموا بالتجربة أن التمور وطحين السكر ومكسراته، والفول
والبسكويت توزع ثمة دون عناء، حيث لن يتكلفوا في مقابلها أداء مهمة إلى طرف
القرية، فالدي لا هَمً لديها حتى تبتعث الصبيان، عكس سيدات يعرفهن الصبيان ويتجنبونهن
خوف العناء (ارْسُولْ).
يتسكع الصبيان قرب خيمة الدًيً وفي النفس مبتغى
آخر هو إيقاع الطير في الشرك، حيث اعتادت الطيورالبكور صوب خيمة الدًيً التي دأبت -
طلبا للأجر بعد الفراغ من صلاة الصبح - أن تقوم بذر الحبوب قمحا وأرزا وذرة، عند
أطراف فراش من حصير كان الوحيد في خيمتها، حتى يطعم الطيور دون عناء قبل التوجه
إلى حوض البئر القريبة للشراب من سؤر الإنسان والحيوان.
آثرت الدًيً
القرب من الأموات على مساكنة ومحادثة الأحياء، وهي لذلك تغيب دوما إلى المقبرة (الآبدية)
القريبة نسبيا من القرية، للذكرى ولإرغام النفس وتهيئتها لمصيرها الحتمي، وإن عادت
فإلى سيدات يُذَكٍرْنَ بذات المصير، ويسكن وحيدات مثلها في أطراف القرية، وحتى
تبتعد أكثر عن مضايقة ملذات الحياة لها أكلا وشربا ونوما، فهي تصوم الشمس وكانت
ممارسة صوم الشمس عادة لم أرها من قبلها ولا من بعدها.
تدخل الدًيً
في غيبوبة ونوبات من الدُوار (المَيْدْ) بسبب عادة الصوم الغريبة تلك فيجتمع حولها
النسوة ويستدعين طبيبة القرية مريم بنت أوفى لتقديم واجب العيادة والإسعاف، على
وقع حديثهن الذي يمُجٌه طبع الدًيً فلا ترضاه ولا تحضره إلا مكرهة حين تغيب عن
الدنيا، وسرعان ما تشير إليهن أن انصرفن فقد تعافيت، ليس فرحا منها بالدنيا ولكن
غمًا وكرهًا لعادة نساء قريتها تلك.
كانت الوالدة
خيره بنت التًاي وهي من تقوم على شأن الدًيً ورعاية أمرها، حريصة أي حرص أن يصل
طعامها وشرابها وكل ما يصلح حالها إليها، ولو كانت في طرف من القرية قصي، ولقد كان
الأمر ميسورا إذ أن الصبيان - وكنت منهم- يتسابقون لحمل كل ذلك لأنه يخصهم، فحين
يصل الصبي إلى وجهته ويضع القصعة أو الحاوي أيا كان فإن الدًيً تناديه – دون أن
تتبين ما هنالك – خذ هذا لك ولأصحابك، ولعمري فإن الثلاثة ما ملُوا ذات الفعل، فلا
الوالدة خيره قد ملًت ابتعاث المخصصات إلى الدًيً، ولا الدًيً ملًت من تقسيمه على
الصبيان، وما هؤلاء بمتوانين عن فضه عليهم كلما دعتهم الدًيً إليه.
رحم الله الدًيً
فقد كانت نموذج الزهد والعمل ليوم الآخرة، رحلت مع عادة صوم الشمس التي
أتذكرها كلما حل رمضان وتبرم الناس منه وشكوه .
الدكتور / أحمد سالم ولد شلا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق