بقلم الدكتور أحمد سالم ولد اباه
أستاذ جامعي
الصورة من صفحة الشيخ أحمد أبنُ |
ما بين لكْديَ
ولخْرَيْزَه وكِيمي وبُوكي والعزلات وتنْيَرْكْ، كان حي الحجاج من قوم محمد بن
سيدي ينتجعون مراعي خصبة، ينمون قطعانهم من البقر وسوائمهم من الإبل، وحلائبهم من
الغنم، وكان لنجعتهم تلك ارتباط وثيق بالتخلي "لعبادة العلي" وتلاوة
وتجويد كتاب الله طريا بأسانيدَ موصولة إلى جبريل عليه السلام، معلمِ الوحي الذي
نزل بفعل الأمر من القراءة، فنفثه سراً في روع محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
كانت مضارب
القوم وما حولها ك"الصفراء والكحلاء" محط اهتمام الشباب الطامح للتعلم
ممن كانوا مضرب المثل في الولع بالعلم " أشمار ول زوايا فلكراي" لذلك
عزم محمد حبيب الله بن العتيق بن محمذ فال بن ألمين
بن متيْلي على التوجه إليها قصد التعلم والتصدر للتعليم، وتلك شِنشِنَةٌ يعرفها، فنال
بغيته ومكث متنقلا بين أحياء إجيْجْبَ وأحياء الأدهسيين والحجاج معلما ومتعلما،
وكان من تلاميذه النجباء محمد بن سيدي، وكأَنَ القَدَر يعده ليكون معلما ثم شيخا
وقورا في حي شيخه ومعلمه محمد حبيب الله، لكن أحدا لن يكتشف العلاقة بينهما إلا
حين تزور "اكفاتن" بنفاكِ قادمة من شكار بغرض صلة الرحم، فتلقى محمدًا
بعد ما سمعت من حديث الناس عنه وعن طريقته في التعليم، إذ قد عرفته وعرفت صلته
بطريقة أبيها تلك في التلقين والتهجية والتربية، لكنها أجًلت الجزم بذلك حتى
لقيته، فتعارفا وقصت خبره على القوم فتعجبوا غاية العجب من سيرة محمد وهجرته إلى
قرية بنفاكِ.
شيَدَ بنو
متًيْلِيً بن أشفاغ الماح بئر بنفاك، بالقرب من المدفن العتيق "لَبُديً"
وكانت الدنيا إذ ذاك "صادَ الكدامْ" في إشارة إلى أن الرجال حين يكون
عليهم جلب الميرة، فإنما يمتارون من السنغال "كبلت لبحر" سواء كان ذلك
من "دكانه" أو "اندر" أو "لكصور" ، كانت الغيبة
تحيل "لخْيام" إلى مسرح للعب الصبيان وفوضاهم، فالرجال النشطون كلهم
هنالك كبلت لبحر، ولا يوجد هنا إلا العجزة والنساء والولدان، الذين لايستطيعون
حيلة ولا يهتدون سبيلا، لذلك كان
المراهقون ومن في حكمهم خارجين عن السيطرة، وليس لدى النساء من شيئ تجاههم إلا
الدعاء بالهداية، أما الأطفال فقد اعتادوا اللعب والمرح دون انقطاع إلا من غُدُوٍ
ورواح إلى معلمات للقرآن لا يكادون يلبثون عندهن أكثر من ساعة، فلم تكن تتحملن المشقة
في تلقين الصبيان، وإن لم تبخلن بما تملكن من جهد، منهم من تُعَلِمُه
"ديْجاتْ" في "الزر الكبلي" ومن من يذهب إلى فطمة بنت ابي في
"الزر التلي" لم تكن عقولهم الصغيرة تحدثهم أن الحال ستتغير بقدوم محمدِ
وأن زمانه أظلنا .
صوب قرية
بنفاك إلى الشمال من عاصمة الجنوب "لكوارب" تتوجه سيارة
"اكليكم" وهي من نوع 404 كل يوم حاملة الجديد، تمرُ على
"انكَكْ" و"لكدم" و"البوط" ثم يلوح للصبيان ضوءها
من بعيد فيحدوهم أمل "اتلنكي" وفجأة تدخل القرية وتتوقف بعد مطاردة يُوفَق
فيها البعض فيعلق، ويُطرح البعض الآخر أرضا وقتا ليس بالقصير يَميدُ معتقدا أن
"الأرض تدور" تتوقف السيارة أمام منزل أهل الداه امين، فينبرى منها رجل
أربعيني رغم حُلكة الظلام تتبين محفظته وقامته الفارهة وجثته العظيمة، أما ملامحه
فمرجأة إلى غد، وإن غدا لناظره قريب .
كانت سيدة
المنزل "فاتُ" من القليلات في القرية اللواتي يعجبهن "الكسكس"
فيحضرنه وجبة للعشاء، على غير عادة القوم الذين طالما اتفقت طبيعتهم مع العيش
وشجعهم على ذلك ما يجدون فيه من صلاح لطبعهم، بعد وقت قصير من مراسيم الضيافة سأل
محمدٌ القوم أن يدلوه على طريق المصلى، ثم عاد وخلد إلى نوم ليس بالعميق، فقد اعتاد
أن ينقص من الليل نصفه أو يزيد، استيقظ الضيف وانتقل إلى عريش قريب شيدته الجماعة
ليكون مصلاها، ودار ندوتها، وجلس في زاوية منه يرتل قرآنه بصوت يعطي فرصة لغيره
ممن تعودوا أن يأووا إلى ركن من المسجد للتلاوة والذكر، يقومون الليل إلا نصفه وقد
ينقصون من نصفه القليل، وقد يزيدون عليه.
رفع
"حيان" أذان سدس الليل وتناوب آخرون من بعده تبينت منهم
"ابًدو" و"التاه ابًيْ" و "سيدي بن الحاج" في تلك
الأثناء لم يكن صوت يعلو على صوت "دداه التا" وهو يصدح بذكر الله،
لايفتر لسانه الرطب ولا يتوقف إلا حين يؤكد الخبير "أدي" أن الضوء قد
انجلى، وأن النهار قد انسلخ من الليل، فيقيم الصلاة على الإمام الراتب
"اموه" .
حين فرغ
الإمام - أو كاد - من الباقيات الصالحات، أصدر محمدٌ صوتَ حنحنة غيرَ مألوف لدى
القوم وأتبعها بصوت مبحوح قائلا "لدي برقية جئت أحملها من العاصمة
نواكشوط كلفني محمد باب "اكاه"
بتوصيلها، أوْقَدَ "أدي" شمعةً وقرأ ما على الظرف فإذا هو " تصل
براحة الجماعة في بنفاك" وبخط أقل سماكة "بدوح" فكً الظرفَ دون أن
يُتلفه، فإذا بخط مغربي أنيق غاية في الروعة والإتقان، وقرأ حتى المنتهى.
أخذ القوم في
تبادل التحية مع الضيف، والترحيب به ومجاملته، بل إن منهم من حاول رفع الكلفة معه،
حتى يجلو أمره، ويبتلي طينته، ويختبر معرفته، وكان في كل ذلك رزينا باسما يجيب
ويتعاطى مع القوم بأريحية دلت على ثبات قدمه، وعلوِ كعبه في مجال التلقين والتربية
والتجويد، وذلك ما كنا نبغي .
دلف محمدُ
خارجا من العريش فرافقه الإمام "اموه" إلى مَناخه فعتب على
"فات" إذ لم تعلمهم بالضيف رغم تأكدهم السابق أنها قد عملت الواجب
تجاهه، بعد عودة "رجالة لمسيد" إلى أهليهم شاع خبر الضيف في القرية
"لفريك" وأن معلما للقرآن أربعينيا سيتولى تلقين الصبيان وتربية
المراهقين، فطفق القوم في سباق كي "يشرطوا" أبناءهم على محمدٍ زرافات
ووحدانا.
قبل أن يغادر
محمدُ نواكشوط كان قد ضمن راتبا مجزيا عن كل شهر، فقد كان محمد باب قادما للتو من
عطلته في بنفاك، ورأى ما يندى له الجبين من تفلُت عرى الأخلاق الناتج عن إهمال
الأهالي للأطفال، واستقلال المراهقين بأنفسهم بعيدا عن الرقيب حيث "لا ناهٍ
ولا منتهٍ" فعزم على البحث عن حل لتلك المعضلة، ولذلك فحين وقع على المعلم
الجديد لم يتردد في موافقته على الراتب الذي طلب، وكذلك حين توقف في لكوارب، تضاعف
راتبه براتب أعطاه "الداه امين" ومن ثم لم يكُ محمدٌ حرفيا مع سكان
القرية حول "الشًرْطِ" بل كان يردد عبارة أحضروا التلاميذ أولا وبعد ذلك
لن نختلف.
ما إن سمع نساء
بنفاك بمقدم المعلم حتى هُرعن لاختيار مكانٍ "برزه" لنصب خيمة تليق بضيف
يهُم بتعليم أبنائهن القرآن العظيم، ولمَ لا فقد عُرف نساء القرية بجودة العمل
والتفاني فيه، والتكافل والتعاون فيما بينهن، وقد بكرن بكور الطير فنظفن مكانا قرب
المصلى، ودَحَيْن به خيمة وجمعن أثاثها ومتاعها كاملا قبل ضحوة ذلك اليوم، كان
محمد يراقب الوضع من قريب، وكان يهوى الاستقلال بأمره، وما كاد النسوة ينصرفن حتى
أخذ محفظته بيمينه، واستودع "فاتُ" متوجها نحو المنزل الجديد، تمتم ببعض
الآيات تبركا وتيامنا....رب أنزلني مُنزلا مباركا وأنت خير المنزِلين...، لم تكن
"فاتُ" تريد لضيفها الاستقلال بهذه السرعة ولذلك فقد لحقته صحبة من يحمل
بعض "الزريق" وعزمت عليه أن يقبل ضيافتها عن بعد ما دام يسكن وحده،
فرحَت كثيرا حين قبل منها العرض ورجعت إلى الوالةِ "النَتُ" تبشرها بما
حصل .
كان محمد
يعتمد طريقة فذةً في التلقين والتربية عمادها استنفاذ وقت التلاميذ حتى يتفرغوا
للحفظ والتكرار، وقد قسمهم إلى مستويات ثلاثة :
أ- طلاب يكتبون ويحفظون ويكررون بأنفسهم
وبمساعدة بعضهم بعضا، وهؤلاء يبدأ يومهم
الدراسي من الساعة الخامسة صباحا، وقد فرض على كل منهم إحضار شمعة يتبين بها تكرار
لوحه، وعرضه على الشيخ للتأكد من حفظه، ثم يجلس غير بعيد فيملي عليه ما يكتب ليوم
جديد، ثم يكرره ويحفظ ما كرر ويعرضه عليه، بعد ذلك يتفرغ الطالب الأكثر تقدما لمن
هم دونه فيملي عليهم في وقت واحد والشيخ يستمع إليه حتى لا يلقي إلى أحدهم في
إملائه نصا خطأ، عندما يفرغ الطلاب من الكتابة والتكرار والعرض على الشيخ وحفظ
مكتوبهم اليومي، يؤذن لهم في الانصراف حسب السن وحسب ترتيب الحفظ، لمدة لا تزيد عن
ثلاثين دقيقة للفطور، ثم يعودون أدراجهم لتكرار سورهم وأحزابهم، وما غسلوا من
ألواحهم حديثا (المغسول آخرا يحفظ أولا) يشكلون دائرة حول الشيخ بحيث يراهم
ويسمعهم، فيصحح لهم ويستدعي أحدهم من كل ساعة ليسمع منه بصورة مفاجئة، وبذلك يبقى
الجميع- يقظا متأهبا للمثول أمام الشيخ، وويل لمن يتتعتع أو يتلعثم في محفوظ إذ
سيكون الحبل ضجيعه وسيدلك بالعصا دلكا، ويعجن بها عجنا، عندما تكون الشمس في كبد
السماء يؤذن للجميع في الانصراف حتى يصلى الظهر، فيعودون إلى "الحوش"
"الكللة" وهي دائرة من الخشب المتشابك لها باب واحد يمنع منعا باتا
الدخول أو الخروج إلا منه وللمخالف الحبل والعصا، يدخلون ظهرا فيكررون ما كتبوا في
الصباح ثم بعد حفظه يكررون مقلوب اللوح " الدَرْسْ" بترقيق الراء، بعدها
يتحلقون حول الشيخ لتكرار مغسولهم " السورات" حتى بُعَيْدَ العصر،
ينطلقون ليختلسوا من اللعب كل على طريقته، هذا من الكرة، وذاك من الجري خلف سيارات
وطائرات وهمية، وآخرون يؤثرون الجلوس والاضطجاع حول الكبار يستمعون وينقلون
مايسمعون، وما لايسمعون، يطلق عليهم أترابهم "لمْسَنْبِينْ" لكن أيا من
أولئك لا يستطيع مطاردة الحمير ولا
السيارات الحقيقية، ولا مضايقة ساكنة لفريك، ولا التسكع المعروف محليا ب "اصْكَاطَه"
فتلك مع كثير غيرها من المحرمات، وقد خصص لها محمدٌ مجموعة من التلاميذ يرصدونها،
يسمون "الكَرَاظَة" وويل ثم ويل لمن يرد اسمه على طرْف لسان أحد الكراظة
صادقا أوكاذبا، وكثيرا ما يلفقون "كَرْظَة" عند سوء التفاهم مع أحدهم فيلقى
عنتًا من محمد، بالضرب ومن التلاميذ بالتشفي فيه خاصة أولئك الذين بينهم وبينه
"داحوسة" فيتشفون فيه بطريقة "الزًيْمِ" و "امْبُحُوحْ"
وهي عبارات تزيد من ألم المضروب وتجعله ينتظر ضرب غرمائه الذين تشفوا فيه بالأمس
القريب، عند ما يحين من الشمس توارٍ بحجابها يحين وقت هادم اللذات "أغبَادْ لمْسَ"
ويعني وقت المرور على المكتوب في المساء بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب، يتسابق
الطلاب إلى الحضور ثم يذهب الكبار مع محمد إلى المصلى ويعود الصغار أدراجهم إلى
أهليهم، أما المتوسطون فيبقون في هرْج ومرْج حتى يعود الشيخ وغالبا ما تنتظره
لائحة من المخلفين سيأخذ منها الحبل والعصا مأخذهما، يصطف الطلاب المتوسطون أقرب
والكبار في الخلف بحيث يسمعهم الشيخ ويراهم بواسطة شمعة (ظوايه) يتَفَرَسهم بها من
حين لآخر، يستدعي أقلهم "سورات" من الحزب فما فوق حتى ينهي أغلب المبتدئين،
ثم يختار خمسة من الكبار ليحفظوا عليه مباشرة ودون واسطة خمسة أحزاب "خُمْسْ"
بعد تكاثر الظباء على خراش، أصبح يستعين بالكبار لتحفيظ الصغار، ثم يخلو بالكبار
فيختار منهم ضحاياه كل ليلة للحفظ، ينتهي أخرهم قبل صلاة العشاء، بعدها ينطلق عَسَسُ
" كراظة " محمد ليعلموا ما اجترح التلاميذ ليلا فيضعونه بين يديه مع
بداية اليوم الجديد.
ب- مجموعة من التلاميذ المتوسطين في العمر
والتحصيل، مابين ثماني سنوات إلى عشْرٍ، يتراوح ما جمعوا من القرآن بين العشرين
والثلاثين، يبدأ توافدهم بعد صلاة الصبح ويتولى محمد بنفسه عرض محفوظاتهم من
مكتوبهم اليومي، بينما يتولى كبار الطلاب الإملاء عليهم والاستماع لتكرارهم وحفظ
سوراتهم، ليس على هؤلاء عبء كبير فهم لا يجلبون الماء ولا الحطب، ولكنهم يصنعون
الحبر "السمغة" تحريفا للصمغ وهو المادة الأهم في الخليط مع الماء
والفحم.
ت- مجموعة المبتدئين وليست بالكثيرة في العادة
حيث يتولى أمر الصبيان تحت السابعة ذووهم حتى يعلموهم الكتابة والقراءة
"تكمكي" ثم يدفعون بالذكور منهم إلى محمد، فقد كان لايحبذ تعليم البنات،
وهو من يتولى أمرَ هذه المجموعة بالكامل.
وينقسم الزمن
في عرف محمدٍ إلى ثلاثة أزمنة :
·
السَبْتَة :
وتبدأ من ظهر الجمعة إلى منتصف يوم الأربعاء والعمل فيها كما بينا أعلاه.
· لخميسة : وتبدأ من منتصف يوم الأربعاء إلى
ظهر الجمعة، ويكون العمل فيها مخصوصا بالكبار من الفئة الأولى ممن حصَل نصف القرآن
فما فوق، يتسابقون صباحا والأسبقية تعطِي التقدم، وعلى الجميع تقع مسؤولية جلب
الماء من البئر والعناية بالمواشي حتى وقت الزوال، يعود التلاميذ إلى ذويهم
ليقيموا أصلابهم بلقيمات مما تيسر مع الأرز، لحما طريا، أوقديدا، أوفاصوليا (آدلكان)
أو "الشركاش" ، ومع كل ذلك تراهم بعد الظهر وفي الهجير يتسابقون إلى
محمد ليحفظوا ما تيسر خمسا ونحوه، وقليل منهم من ينعم بثلاثين دقيقة من الكرة
مساء، بسبب ما يشغلهم به الشيخ من مهام تتباين في الشُقة والمشقَةِ، وتجمعها صفة
واحدة هي أنها ستشغل الوقت غالبا.
· خُرُوجْ : وهو عطلة عن الاستزادة من
الكتابة، لكنه ملازم للتكرار، وهو متعلق بالأعياد الدينية كعيد الفطر، وعيد
الأضحى، خمسةُ أيام قبل العيد وخمسة أيام بعده، أما عيد المولد النبوي الشريف فعلى
مدى شهر كامل يكون التلاميذ شبه معطلين إلا من التكرار.
التعويضات: كان
محمدٌ رجلا وقورا هادئا ذا سمت حسن، في البداية كان له مرتب مجزٍ، ثم لما تزوج في
محيطه الجديد من "ميمونة" وهي إحدى بنات محمدٍ بن اعل اسغير، وكثر
التلاميذ اختار أن يتعامل مباشرة مع ذويهم كلٍ على حدة، فأرسل لهم أن الشرط الشهري
حسب التحصيل، من ألف إلى ثلاثة آلاف، وأن عليهم "أربعة"
و"أثنينة" و"طرحة" وهي ما يعطى عند "خُرُوجْ"، يقول
الطلاب إن من تتأخر مستحقاته يكون محط سخطٍ ولعنةٍ من الشيخ، وأن من يختص أهلُـُـه
محمدا بالهدايا يكون من الخواص المحظيين المقربين، كان التمر والدهن والعطر مما حُبب
إلى محمدٍ من دنيانا، فكان لذلك نساء الحي من أمهات التلاميذ يتسابقن ويتنافسن في
التفنن له والتأنق في الهدايا، وممن أدركت كانت السيدة خيرة بنت ابًيْ والدة
التلميذين فتاح وباب، أكثرهن ترددا على الشيخ و "لفا" من وراء حجاب للهدايا
الثمينة، فقد كان محمدو "اشدو" صاحب متجر كبير في "الصنك" المذرذرة
وكانت هي إلى ذلك كريمة تريد أن "يفتح الله" على الأخوين ، كانت هنالك
مسببات أخرى "للفتح" استخدمها محمد كثيرا، فكان تلاميذه يمْتحون البئر ويحملون
الماء على الحُمُر مرة وعلى الأكتاف مرارا، ويعتنون بالماشية سقيا ورعيا وإطعاما
"الحش" وحلبا، ويَفْلَحُون الأرض ويزرعونها، ولهم في الحصاد من القصص
والنوادر ما يكفي لتأليف كتاب من كتب الأمالي ، ومن التعويضات إضافة إلى ذلك ما يُعْطَى
عند رأس الحزب وعند ختم القرآن مما تركه محمدٌ للعرف وحسب الميسُرة .
العقوبات: كان
النظام سيد الموقف في "الكَلًلةِ" وكان الداخل إليها يصاب بالذهول من
شدة ترتيب الأمور، فلغسيل الألواح موضع، ولكل تلميذ جذعٌ من شجرة رطبا أو يابسا
يستخدمه لوضع أغراضه من صمغ وشمعة ولوح، وربما وضع عند جذعه لحافا باليا يقي به
نفسه البرد، ويتقي به الضرب الملازم للنعاس، فكثيرا ما ظن القصيُ نفسَه بمنئى عن
السوط فإذا هو بين كتفيه، فيعلو منه الصوت مرددا لوحه ودون أي حشرجة أو تململ، إذ
أن ردة الفعل تقابَل من محمدٍ بعقاب أشد من الأول، يتبادل الطلاب والتلاميذ
الاحترام غالبا، لكن الأمر لايخلو من مشاكسات خاصة عند المستجدين، الذين يبادرهم
الطلاب بالقصص من أجل العبرة والالتزام لكنهم في الغالب يقعون ضحية تغرير آخرين من
الساديين الذين يودون أن يروا الدموع في أعين التلاميذ، إضافة الى الضربة المنفردة
على حين غفلة والتي تكون في العادة للتنبيه، يستخدم محمد بعض المرات سياسة
"الأرض المحروقة" فيضرب الجميع سوطا سوطا، وربما ثنَى لمتعنة، أما حين
يستدعي أحدا باسمه فالأمر جلل، إما أنه أخطأ وسيعاقب في الحال أو أنه سيكرم
بالابتعاث، وكان رسول محمد وهو يطوي المسافات للتبليغ الشفهي أو الكتابي يمشي ملَكاً،
وهو لذلك محل تنافس من التلاميذ بسبب الهُنيهَة التي يلبث خارج الحِمَى ، أما حين
يكون استدعاؤه للعقوبة فيستلقي على الأرض "كاجًا" لحيته ونظرُه إلى الأسفل،
يأخذ محمد الحبل فيلسعه به مرة أو مرتين، مرددا عبارة "ما صح نفسك" عندما
ينال الحبل من أحدهم يتنادى الطلاب بما يعرفون وما لا يعرفون للنجاء، ويبقى الحال
على ذلك حتى تستنفد عقولهم الصغيرة وقودها من الرهب، فيعودون للهوهم ولعبهم وعبثهم
بأشيائهم فيعود الحبل إلى سيرته الأولى، وهكذا تمر الأيام والشهور والسٍنون.
الخَتْمَة : وتكون
عندما يختم أحدهم واحدا من أرباع القرآن، فيختار رهطا من التلاميذ يؤمر الشيخ
عليهم أحدهم ويوصيه أن لا يسألوا الناس إلحافا وأنلا يزيدوا على المرور قرب
المنازل فمن ناداهم ووهبهم فبها ونعمة وإلا فطريقهم تسعهم وتوصلهم إلى النهاية،
لكن جمع الختمة ليس سوى واحدة من الفسح التي يتمنى التلاميذ للترفيه والخروج عن "الكللة"
ونظامها الصارم، يتفق التلاميذ أن لايعودوا
قبل صلاة العصر وأن يأخذوا ما لذ وطاب مما يجود عليهم به الساكنة، ثم يتنحون به جانبا
فيشربون الشاي ويسرحون ويمرحون، لكن محمدا في الغالب يدس أحد عيونه ضمن رهط الختمة
وعندما يرجعون يسأله عن التفاصيل فيقص قصتها، فينال الأمير نصيب الأسد من العقاب،
دون أن ينقص ذلك من أوزار الرهط شيئا، يتحاشى الطلاب أُسَرًا بعينها يعلمون علم
اليقين أنها "ستزركهم" فتطيحهم" إذ من عادة جماعة الختمة أن تُسأل
في القرآن وعلومه فإن أجابت فحسن وإلا انصرفوا صاغرين، وقد كان بعض الناس يجمع ذلك
لرهط الختمة : يسألهم سؤالا مسكتا وبعد ذلك يهبهم، وتلك درس يستفيدون منها أيما
استفادة.
كنت أود إكمال
تفاصيل الأحداث والمواقف والذكريات لكن هاجس الإطالة واستعجال بعض القراء على
المادة جعلني أتجاوز قسرا مواضيع رأيتها أو رويتها عن الثقاة منها ما كنا نتباشر
به فيما بيننا ونستبشر به في أنفسنا، كغياب الشيخ ومرضه، وقد حضرتني من ذلك مواقف
ضربت عنها صفحا، ومنها محاولة قلب النظام وردع الشيخ، وقد قام بذلك مجموعة من
المراهقين الكبار وسموه "انقلابا" تأثرا بما كانت تعيشه البلاد بين
الحين والآخر، ومن ذلك قدوم بعض أهل الشيخ وأقاربه لصلته، فقد كنا نفرح أيما فرح
بقدوم أسرة أهل الحافظ، وبمقدم حدمين، أو الزاوي وهو معلم قرآن في "احسي
ابيليل" حيث كان الشيخ ينشغل بعض الوقت ليقدم لهم واجب الضيافة ويعتني بهم،
إضافة إلى الهدايا والألعاب التي كانوا يجلبون معهم فنسترق منها لحظات، ونتسلل
إليها لواذا، أما اللحظات التي لم أرغب في سردها فكانت ساعات من العمل الشاق لإصلاح
حال الماشية وغرس الثمار في الخلاء وتسييجها بالأشجار ورعايتها حتى يحين منها الحصاد،
لم أشأ سرد التفاصيل هنا لأنه مازالت تعروني لتلك الذكرى هزة وقشعريرة من الخوف
المشوب بالحسرة على تلك الساعات الطوال، التي أجبرتنا على أن نكون
"مدًوكلين" ولم نكن يوما كذلك وما ينبغي لنا، أما الخواص من الطلاب فكان
بودي تخصيص حيز من هذا "الاستفراغ" لهم ولكني كرهت أن يكون حظهم من كل
ذلك أن "يقال وقد قيل"
وفي الختام
"اللهم ارحمني وارحم محمدًا ولا ترحم معنا أحدًا"
لائحة الطلاب
ممن حفظ القرآن :
1- أحمد سالم ولد امين
2- المختار السالم ولد عبيدن
3- محمد سالم ولد اكاه
4- سيدي باب ولد دداه
5- ألمين السالم ولد أحمدن
6- المختار ولد أبي
7- امربيه ولد الداه امين
8- محمدو ولد سلام
9- أحمد سالم ولد اليدالي
10-
محمد سالم ولد
بدوا
11-
محمذفال ولد
جد الناس
12-
محمدو ولد
الداه
13-
أحمد سالم ولد
اباه
14-
عبد الله ولد الحاج
15-
فاطمة (النيه)
بنت باكر
16-
مريم تسلم بنت
جد الناس
17-
خديجة بنت
جدالناس
18- داداد ولد يام
19- حم ولد كامل
20- عبدالله ولد بدي
21- محمدُ ولد الدياه
18- داداد ولد يام
19- حم ولد كامل
20- عبدالله ولد بدي
21- محمدُ ولد الدياه
ملاحظة :
اللائحة أمليتها من الذاكرة ولعل الساقط منها أكثر من المثبت، فما كان .... وما
كان ....
good work
ردحذفgood workgood workgood workgood workgood workgood workgood workgood workgood workgood work